“الشّيخ جرّاح”… مِن لَوحة فنيّة جَميلة إلى حَيّ يُصارع بَشاعة الاستيطان
22الاعلامي-بقلم:رنا بشاره
لم أتصوّر يوماً أنّ ذاكَ الحَي الذي كُنّا نَمُّر بِه في الحافلة المدرسيّة مرّتين يوميّاً ونحنُ في طريقنا إلى مدرسة كُليّة شميدت للبنات صباحاً وأثناء عودَتِنا منها َبعدَ الظُّهر في سبعينيّات وثمانينيّات القرن سوفَ تَنال من جَمالِه هَجمةٍ استيطانيّة همجيّة شَرِسة بعدَ سنوات قليلة. بالرّغم من أنّني لم أكُن قد تجاوَزت العاشِرة وَقتَها، إلّا أنّ حَي الشّيخ جرّاح، الذي َلا يَبعُد سِوى كيلومترات قليلة باتّجاه الجنوب عن بيتِنا في حَي بيت حنينا، كانَ يَسحرُني. يَلفِتُني فيه تناسُق بيوتِه الحجريّة وتماهيها مع خُضرة الأشجار المُحيطة بها على اختلاف ثِمارِها. كُنتُ أنظُر بعينٍ من الحسد الطّفولي البريء إزاء مَن يَعيش هُناك، ليسَ لهذا السّبب وَحدِه فحسب ولكّن لكونه أيضاً لا يَبعُد أكثر من ثلاثة كيلومترات عن قَلب مدينة القُدس وباب العامود، إحدى البّوابات الرّئيسيّة المؤديّة للبلدة القديمة داخل السّور.
كانَ حَي “الشّيخ جرّاح” موصوفاً بِهدوئِه. انتَقَلَت إليه، عقب نَكبة واحتلال الشّطر الغربي من مدينة القُدس عام 1948، بعض مقّرات المؤسسات الدّوليّة والبعثات الأجنبيّة منها: القنصلية السويدية؛ القنصلية التركية؛ القنصلية البلجيكية؛ القنصلية الإيطالية؛ القنصلية الإسبانية؛ القنصلية البريطانية؛ القنصلية الفرنسية. وإلى حُزيران العام 1967 كان يَضّم القنصليات العراقية، واللبنانية، والسعودية، والمصرية، والسورية.
في الشّيخ جرّاح غَرباً، يَقَع المَقّر الرئيسي لوكالة الغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشّرق الأدنى ولي فيه ذكريات طُفوليّة جَميلة لا تُنسى. فقد عملت فيه الوالدة أكثر من ثلاثينَ عاماً، وكانَت تَصحَبني معها أحياناً أيّام العُطَل المدرسيّة. أجلِس إلى جِوارها في مكتبِها المُتواضِع وأمامي آلة كاتبة، أُقّلّد ما تفعَل وأطَقطِق عليها بأصابعي الصّغيرة لساعات.
من الجِهة الشّرقيّة للحَي، فُندُق “الأمبسادور” حيثُ كانَ حفل عقد قَرانها على والدي عام 1956 كما نَقَلت لي وهِيَ تُشير إلى ألبوم الصّور الذي ظلّت تحتفظ به وورثته عنها بعدَ رَحيلِها عن الدّنيا. كانَ ”الأمبسادور” وُجهة الزوّار من الوفود الرّسميّة والدّبلوماسيّة العربيّة والأجنبيّة التي كانَت تأتي لزيارة مدينة القُدس قبل احتلالها عام 1967. وعلى بُعد امتار قليلة منه يقع فُندق “ماونت سكوبس” وَمبنى جمعية الشّابات المسيحيّة التي تأسّست عام 1893.
و”الجَمعية”، كما معلوم مُنّظمّة دوليّة غير حكوميّة عَريقة لَها باعٌ طويل في العمل الأهلي والخيري والنّشاط الاجتماعي والثقافي والفنيّ والرّياضي. وكانَت، كما أذكُر مِن طُفولتي تُقيم المُخيّمات الصّيفيّة السّنوية التي كُنّا نلتحق بها ف عُطلة الصّيف التي كانت تمتَد مِن بِداية “حُزيران” إلى نِهاية “آب”.
وليسَ بِبعيد عن جمعيّة الشابات المسيحيّة لناحية الشّمال هُناك مُستشفى العيون (سان جون) والمستشفى الفَرنسي (مار يوسف) وهُما من أهم المؤسّسات الصّحيّة المقدسيّة التي تُقدّم خدماتِها للفلسطينيين من سائر أنحاء الضّفة الغربيّة.
أمّا جنوباً باتّجاه القُدس، فَكانَ مقّر جريدة الفجر الفلسطينيّة باللّغة الانجليزيّة التي كانَ يملُكها بول عَجلوني ويوميّة القُدس الفلسطينيّة التي أسّسها الرّاحل محمود أبو الزّلف عام 1951، و المسرح الوطني الفلسطيني، “الحكواتي” الذي كانَ يُعتبر صَرحاً ثقافيّاً مُهّماً في القُدس.
في “الشّيخ جرّاح أيضاً، دار إسعاف النّشاشيبي وهُوَ قصر قديم ابتناه محمد إسعاف بن عثمان النشاشيبي عام 1922، فغدا عُنواناً للقاء الأُدباء والمفكرين العرب. أصبح هذا المَعلَم العريق في ما بعد مقراً للقُنصلية الفرنسية، ومن بعدها لمدرسة الآثار الألمانية عام 1964 قبلَ أن يُصبح في حوزة مؤسسة دار الطفل العربي عام 1982. وقد أسّس فيه الدكتور إسحق موسى الحسيني مركز الأبحاث الإسلامية. كما تضّم الدّار مكتبة قيّمة وقاعة لإقامة المعارض الفنيّة في الطّابق العلوي.
هذا وكانَ يعتبر حَي َالشّيخ جرّاح من أرقى الأحياء السّكنيّة في مدينة القُدس. انتقلت إليه عددٌ من العائلات المَقدسيّة التي هُجّرت بغالبيتها عن بيوتها في أحياء القُدس الغربيّة عقب نكبة عام 1948.
لم تكُن الهجمة الاستيطانيّة الأخيرة على حَي الشّيخ جرّاح وليدة عام أو عقدٍ من الزّمن فحسب، ولكّنّها جرَت في سياق عمليّة تهويد استراتيجيّة مُبرمجة ومُمنهجة لا يقّل عُمرها عن نِصف قَرن. فمنذُ اللّحظة الأولى لاحتلال الضّفة الغربيّة عام 1967، بما في ذلك الشّطر الشّرقي من مدينة القُدس سَخّرّت سُلطات الاحتلال الاسرائيلي كافة أذرعها السّياسية والعسكريّة والاستيطانيّة من أجل تهويد “المدينة” وطمس هويّتها العربيّة. كانَ تَهويد القُدس مَوضِعَ إجماع كافة الحُكومات الاسرائيليّة المُتعاقبة على اختلاف أيديولوجياتها. راحَت تضع الخِطط التي تستهدِف أسرلة كافة جوانب الحيّاة في “المدينة”، وخصّصّت لتنفيذها ميزانيّات هائلة.
وفي حي الشيخ جرّاح، كما بقيّة القُدس وأحيائِها، اتّخذ الاستيطان أوجهاً عِدّة. البِداية كاَنت بالاستيلاء على مبنى يقع إلى الشّمال من مستشفى العيون. كانَت الحكومة الأردنية قد أَنجزَت هيكلَه الأساسي قبلَ العام 1967 ليكون مَشفىً حُكوميّاً حوّلّه الاحتلال بعد مُصادرته إلى مَقّرٍ لقيادة الشّرطة القُطرية الإسرائيلية، وألحَقَهُ من ثمّ بِمُجّمعٍ أمني آخر ليكونَ مقّرّاً مركزيّاً لِما يُسّمى “قوات حرس الحدود” الإسرائيلية.
ومن الجهة الغربيّة لِحَي الشيخ جرّاح، حيثُ المنطقة الفاصلة بين شطرَي مَدينة القُدس، والتي تُعرَف بالمنطقة الحرام، تمّ تشييد فُندُقَين اسرائيليّين وثالث للهستدروت (نقابة العمل في إسرائيل)، بينما تمّ تحويّل الجزء الأكبر منه لاحقاً إلى عيادة طبية. ولإخفاء أي أثر لِخَط الهُدنة الفاصِل وبِهدف تجسيد فكرة توحيد الشّطر الغربي وَ الشّطر الشّرقي لمدينة القُدس، تمّ تشييد “شارع رقم 1”.
أمّا أبرز العمليات الاستيطانيّة التّالية، فقد كانَت عام 1985 عندما اشترى المليونير اليهودي الأميركي إيرفينغ موسكوفيتش فُندق شبرد (قصر المفتي) والأرض المحيطة به من الحكومة الإسرائيليه بهدف إنشاء مستعمرة في موقعه. ويُذكر أن السلطات الإسرائيلية كانت قد صادرت القصر بذريعة كونه من أملاك غائبين، على الرغم من وجود مجموعة معتبرة من ورثة المفتي في القدس.
هذا وليسَ خافيّاً على أحد كيفَ سَخَّرَّ الاحتلال الدّين والأساطير التلموديّة والتوراتيّة لخدمة أهدافه التّوّسعيّة الاستيطانيّة في فلسطين عموماً والقُدس على وجه الخُصوص. فكانَ يدّعي وُجود الكُنُس القديمة والأثارات والقُبور والمقامات والأضرحة المُقدّسة في الأماكِن التي يستهدفها بالاستيطان. يبدأ كخُطوة أولى بإقامة نواة للبؤر الاستيطانيّة في الموقِع المُستهدَف ومن ثمّ يتوّسّع تَدريجيّاً حتّى يُحوّلوها إلى مُستوطنة لَها شوارعها الالتفافيّة والدّاخليّة الخاصّة ومرافقها العامة وكافة الخدمات التي يحتاجُها المُستوطنون. وللشّيخ جرّاح بالطّبع كانَ حُصّتُه من هذه السّياسة الاستيطانيّة التوّسّعيّة المدروسة بدقة، حيثُ راحَ المستوطنون يزعمون وجود ضَريح “الحاخام شمعون الصّديق” في الجهة الشّرقيّة من الحَي. ذاكَ الادّعاء الذي لم تَثبُت صحتّه تاريخيّاً.
وللمُفارقة، وبدلاً مِن أن تؤدي مُفاوضات “أوسلو” العبثيّة إلى الحَد مِن الاستيطان على مدار أكثر من رُبع قَرن من الزّمن كما كانَ يُفترَض، فقد وفرّت بِدورِها الغطاء للحكومات الاسرائيليّة المُتعاقبة لِتَمضيَ قُدماً وبوتيرة مُتسارعة في ترجمة خِطَطِها الاستيطانيّة إلى وقائع راسخة على الأرض. تلك الوقائع التي باتَ يبدو من سابِع المُستحيلات تغييرها اليوم. وقد قدّمت الحُكومات الاسرائيليّة كُل الدّعم السّياسي والمالي واللّوجستي المطلوب للحركات والجمعيّات الاستيطانيّة وبالأخّص في مدينة القُدس لبناء وتوسيع المُستوطنات كما يَحلو لها.
لقد كانَت الهجمة الاستيطانية على حي الشّيخ جرّاح مُنتصف العام الماضي القشّة التي قصمت ظهر البعير. ولم تكُن الهبّة الشّعبيّة الفلسطينيّة التي أطلقَ شرارتها الأولى حِراك شبابي من قَلب “الحَي” مُرتبطة زمنيّاً بِحدثٍ بعينه فحسب، لكّنها جاءَت نتيجة حالة من تَراكم اليأس والإحباط لدى الشّباب بسبب ما يجري من حولهم في مدينة القُدس. فمِن جِهة هُم يَرون بأم أعيُنِهِم الانتهاكات اسرائيليّة التي تُمارسها يوميّاً سُلطات الاحتلال الاسرائيلي بحقّهم وَمدينتهم، ويشعرون بخيبةٍ كبيرةٍ من أداء قياداتهم وفصائلهم وأحزابهم التي بتَت عاجزة عن فعل أي شيء لانقاذ “المدينة” وأهلها من الجهة الأخرى. وإن كانَ شِعار الهبّة الشّعبيّة، التي استقطبت في ما بعد الفلسطينيين من سائر أنحاء فلسطين التاريخيّة، وحركات التّضامن الدّوليّة حول العالم “الدّفاع عن حي الشّيخ جرّاح” إلّا أنّهُ حَمَلَ في طيّاته رمزية أكثر بُعداً وعُمقاً من ذلك.
لقد كان 18 أيّار عام 2021، الثّلثاء العظيم، يوماً مفصليّاً في تاريخ النّضال الفلسطيني. ففي هذا اليوم وضَعَ الفَلسطينيّون النّقاط على الحُروف. أعادوا تَوحيد المُصطلحات والمفاهيم. شطبَوا الجُغرافيّا المُصطنعة التي فرضها الاحتلال لتقطيع أوصال الفلسطينيين وتحويلهم إلى كُتَل بشرية مَعزولة عن بعضها البعض. فلَم تَعُد القُرى والمُدن الفلسطينيّة جُزُراً مُتناثرة لا علاقة لأحدها بما يدور في الأخرى، ولو معنويّاً على الأقّل. كما لم تَبدُ القُدس ذاكَ اليوم مدينةً يتيمةً مَنسيّةً لا صِلة لها بمُحيطها. ولم يشعُر أهلُها من المقدسيين أنّهم بلا ظَهر يَستندون إليه. وإن كانَ مُسلسل الاستيطان في حي الشّيخ جرّاح مُستمرّاً إلى اللّحظة إلّا أنّه لن يكون بمقدوره مَحو تلك اللّوحة من الذّاكرة الفلسطينيّة والتي سيظل جمالُها بكُل تأكيد يطغى على قُبح الاستيطان المُتمثّل بوجه إيتمار بن غفير ومَن هُم على شاكلته.
المصدر-القدس