الدِّين والشريعة
22 الإعلامي- المفتي الدكتور جاد الله بسام
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
الدِّين بكسر الدّال هو: أحكام إلهية تقود الإنسان للسعادة، وسُمّي ديناً لأنه يجازى به الإنسان في الآخرة، وهذا المفهوم حيويّ وهامّ جداً، وهو يؤثر في حياة الإنسان، ولا ينفكّ عن الحاجة إليه تجمّع إنسانيّ، ولذلك تحتاج الدول والمؤسسات والأفراد أن تدرجه في ضمن قوانينها وأولوياتها وخططها، ولا يمكن تجاهله بحال من الأحوال بوصفه فطرة فطر الله الناس عليها، وتقتضيها العقول المستقيمة والأدلة القويمة، خصوصاً إذا كان الدين ذا شريعة شاملة لمناحي الحياة المتعددة من عبادات ومعاملات وأخلاق.
وأما في المعنى الدقيق؛ فقد ذكر الفخر الرازيّ وغيره أن الدين “وضعٌ إلهيّ سائقٌ لأولي الألباب إلى الخيرات باختيارهم المحمود”، وتتواتر العبارات في هذا الباب، فمنْ ذلك قول الشريف الجرجاني: “الدين وضع إلهيّ يدعو أصحاب العقول إلى قبول ما هو عند الرسول صلى الله عليه وسلم”، وقولهم: “الدين الاصطلاحي: قانون سماويّ سائق لذوي العقول إلى الخيرات بالذات كالأحكام الشرعية النازلة على النبي محمد صلى الله عليه وسلم”، والمقصود بذلك كله: أن الدين مجموعة من الأحكام والتعليمات الصادرة من الله تعالى، ليتبعها البشر باعتبارها حقائق إذا تأملها العقلاء حكموا بصحتها ولزوم اتباعها، والغاية من هذه الأحكام أن تسعد البشر.
وقد ثارت حول مفهوم الدين مناقشات فلسفية قديمة ومعاصرة، سواء في مفهومه ونشأته وتطوره، ومدى تداخله مع حياة الإنسان، ومدى شمولية أحكامه، ونتج عن ذلك تقسيم الدين لأنواع متعددة، وجرى على الألسنة وصفه باعتبارات كثيرة، فترى الفلاسفة مثلاً يقولون: الدين المدني، أو الدين الطبيعي، أو دين الفلاسفة، أو دين القدماء، ومنهم من أنكر الدين أصلاً وجعله سبباً في التخلف، ومنهم من وصلت به الجرأة إلى اختراع ديانات أو دمجها أو تحريفها، وهؤلاء ينظرون إلى الدين باعتباره صناعة بشرية إنسانية أرضية.
وأياً ما يكنْ؛ فإنّ ما نهتم بشأنه في مقالنا هذا هو توضيح قضية هامة من منظور يعبر عن عقيدة الإسلام، {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَام} [آل عمران: 19]، وهي أنّ الدين ليس أهواء شخصية، ولا آراء مزاجية، ولا هو خاضع للتجارب الإنسانية أو التقييمات المجتمعية أو الفردية، بل هو أحكام وتعليمات إلهية ربانية، ذات مصدر مطلق.
ومن خصائص هذه الأحكام الإلهية أنها توافق العقل ولا تنافره، بل يجد ذو العقل نفسه منقاداً إلى هذه الأحكام لمعرفته بها، ثم تكون نتيجة هذا الانقياد حصول الخير لهذا المتديّن، بل حصول السعادة الكاملة، لأنها سعادة دنيوية وأخروية، وهذا ما بينه لنا القرآن الكريم، حيث يقول الله سبحانه: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذ} [هود: 108]، وورد أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم دعا: “… اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الفَوْزَ فِي الْقَضَاءِ، وَنُزُلَ الشُّهَدَاءِ، وَعَيْشَ السُّعَدَاءِ…” رواه الترمذي.
وإذا تأمّلنا هذا المفهوم في مبدئه وغايته؛ نجد أننا نسعى من خلال الالتزام بالإسلام وشريعته إلى السعادة الكاملة، فليس في دين الإسلام وشرائعه صراع بين ذكر وأنثى، أو أب وأم، أو أب وابنه أو ابنته، أو حاكم ومحكوم، أو غني وفقير، ولا تناقض فيه بين واجب وواجب، ولا فضل فيه لأحد من بني آدم على أخيه، بل الكلّ سواسية في نظر هذا الدين القويم، والكرامة للجميع بحسب الأصل، يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَم} [الإسراء: 70].
وإنما يتفاوت الناس بعد ذلك بما أودع الله فيهم من الملكات والقابلية والاستعداد لحمل أمانة التكليف، يقول الله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُول} [الأحزاب: 72]، فالتفاوت بين الناس وظيفي بحسب التكوين والخلقة والقدرات، أما في الأصل فالخطاب موجه للإنسان نفسه مهما اختلفت الأصناف والألوان والجنسيات والأعراق، فمن أحْسَنَ وحمَلَ الأمانة بحقها فقد أحسن لنفسه، ومن أساء فعليها.
والتعمق في مفهوم الدّين الذي ذكرناه يوقفنا على ذروة من ذُرى الكمال الديني الذي يراعي الإنسانية على أتمّ ما تكون المراعاة، فلا هو ظلم أفراد الإنسان بأن ساوى بينهم تلك المساواة الجائرة التي يدعو إليها بعض الناس، ولا هو ظلمهم بأنْ أهملهم وجعلهم حائرين خلواً عن الخطاب الإلهيّ، بل كان بين ذلك وذلك، نظاماً قواماً ممتلئاً بالحكمة والرحمة والعدل، مرشداً إلى الخيرات.
أقول آخراً؛ علينا أن نعي هذه الحقائق وعْياً تامّاً، فإنها كفيلة بصمودنا أمام مدّ كبير من الشبهات العصرية التي تنزع منا أمننا الفكريّ والمجتمعيّ، وتكاد تطيح بالعلاقات الطبيعية بين الناس، بل بين الشخص ونفسه، فتودي به في مضائق الحيرة والاضطراب، ثم علينا بعد ذلك أن نتخذ موقفاً مصيرياً من قضية الدين: وهو أن نكون نتبعاً له، كما روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: “لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به”. نسأل الله من النعم الدوام، وحسن الختام. والحمد لله رب العالمين.