22 الاعلامي – بقلم : المهندسة ندى ابو عبده
بعد أن تابعت صور الافتتاح الأول لمعرض التعليم المهني “BTEC” على وسائل التواصل الاجتماعي مساء الاثنين، ولاحظت حجم التفاعل والزخم الإعلامي والاهتمام الذي حظي به الحدث التربوي الفريد من نوعه ، انتابني فضول كبير لأرى هذا المعرض بعيني، لا من خلف الشاشة. وشجعتني صديقتي رئيس قسم الإعلام التربوي في العقبة واصطحبتني لنبحر معاً في تجربة فريدة جمعت بين الملاحظة المهنية والانبهار الإنساني، وشعور حقيقي بالفخر كأولياء أمور ومتابعين للشأن التربوي.
بدأنا جولتنا من أقسام الهندسة الكهربائية والمدنية والمعمارية، حيث نماذج تصميمية ومشاريع إلكترونية متقدمة تعكس فهماً حقيقياً لمفاهيم التكنولوجيا والهندسة. ثم انتقلنا إلى عالم الذكاء الاصطناعي، حيث كان الطلبة يشرحون برمجيات وتطبيقات ذكية وكأنهم خبراء في واحات تكنولوجية متقدمة. أما محطة الفن والتصميم والوسائط الإبداعية، فكانت بمثابة معرض فني متكامل، ألوان ولوحات ومجسمات تحكي ذائقة جمالية ناضجة وشغفاً واضحًا بالتعبير الفني.
في محطة الضيافة والسياحة، شعرنا أننا في أحد أجنحة المعارض العالمية، من تنسيق الطاولات إلى عروض الخدمة الاحترافية. وأكثر ما لفتني هناك هو تقديم الأطباق التراثية الأردنية بأسلوب عصري فني، حيث دمج الطلبة بين النكهة الأصيلة والتقديم الراقي، فشعرت بأننا لا نحافظ على هويتنا فقط، بل نعيد تقديمها للعالم بلغة جديدة تليق بعمقها.
أما ركن الشعر والجمال، فقد كان مساحة تُبرز الذوق والإبداع الأنثوي باستخدام أدوات وتقنيات حديثة في العناية الشخصية والتجميل.
وأعترف، لم أكن أتوقّع أن هذه النقلة في التعليم من الأكاديمي إلى المهني يمكن أن تفتح كل هذه الأبواب أمام الطلبة للإبداع والتعبير عن أنفسهم بهذا الشكل الناضج والعميق. لقد أيقنت أن الله سبحانه وتعالى خلقنا مختلفين لنتكامل، فالمواهب متشعّبة، والميول متعدّدة، ولكل منا طريقته في الإبداع والمساهمة. هذا المعرض لم يُظهر فقط مشاريع، بل كشف عن طاقات كانت تنتظر من يكتشفها ويُعطيها مساحة لتتنفس.
ولعل أكثر ما أبهرني خلال الزيارة، أنني شاهدت طالب مدرسة لا يتجاوز عمره 18 عامًا، يعرض مشروعًا بإتقان ومهارة تضاهي خريجي جامعات مرموقة. لم تكن إنجازاته مجرّد تجربة طلابية، بل كانت ناتجة عن تدريب حقيقي وفهم عميق لما يحتاجه سوق العمل.
وربما أنني، بصفتي مهندسة، انحزتُ تلقائيًا لما شاهدته في أقسام التكنولوجيا والتصميم، تقنية الهولوجرام المستخدمة بشكل إبداعي، وتصاميم الشوارع والمرافق العامة التي تميزت بالابتكار والإمكانات التطبيقية. كما جذبتني نماذج المعدات الثقيلة المبسطة التي يمكن استثمار أفكارها في مشاريع حقيقية، ولفتني مشروع حول تطوير بطاريات السيارات الكهربائية، يعكس وعيًا عالميًا بالتحول نحو الطاقة المستدامة. كذلك كان لـتقنية الواقع الافتراضي (Virtual Reality) حضورٌ واضح من خلال النظارات التفاعلية، التي أبهرتني بتجسيدها البيئات الصناعية والمحاكاة الحية بطريقة غامرة ومدروسة.
كل ركن في المعرض كان يروي حكاية طالب أو طالبة قرروا أن يطرقوا باب المستقبل بالمهارة لا بالحفظ. هذا النموذج التعليمي الذي يوفّر 1200 ساعة تدريبية متخصصة، ليس مجرد خيار بديل، بل هو مشروع وطني متكامل يتصدى لفجوة حقيقية بين مخرجات التعليم الأكاديمي ومتطلبات سوق العمل.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن معدل البطالة في الأردن، بحسب آخر إحصائيات دائرة الإحصاءات العامة لعام 2024، بلغ 21.4%، موزعًا بين 18.2% للذكور و32.9% للإناث، في ظل استمرار بعض التخصصات الأكاديمية بتصنيفها ضمن التخصصات الراكدة، مثل الصحافة، التسويق، العلوم السياسية، وإدارة الفنادق.
من هذا المنطلق، يجب أن نعيد النظر كأولياء أمور في طرق توجيهنا لأبنائنا. لا يصحّ أن نفرض عليهم تخصصات لا تنسجم مع ميولهم أو لا توفر لهم فرصًا حقيقية في سوق العمل. بل علينا أن نتيح لهم المساحة لاكتشاف أنفسهم، ونثق بأن الشغف حين يُدعم بالتدريب سيقود إلى نتائج عظيمة. فكم من طالب أُجبِر على طريق لم يكن طريقه، فخاب الأمل وتوقف الطموح.
جيل اليوم ليس أقلّ قدرة منّا، بل ربما أكثر، فقد نشأ في عالم مفتوح، حيث الشاشات ، ليست فقط مصدر ترفيه، بل نوافذ للمعرفة، وأدوات للتعلّم السريع والتفاعل مع العالم. إن وفّرنا له بيئة حاضنة، وتشجيعًا حقيقيًا، وبرامج تعليمية مرنة وعملية، فنحن بذلك لا نمنحه فرصة فحسب، بل نبني به مستقبل الوطن الغالي.
وفي الختام، لا يسعني إلا أن أوجّه تحية إعجاب وفخر لكل من كان خلف هذا التحول النوعي في التعليم، من أصحاب القرار الذين آمنوا بأن المسار المهني BTEC ليس مسارًا هامشيًا، بل ضرورة وطنية، وفرصة تنموية، ورؤية استراتيجية لتغيير شكل التعليم في الأردن.
فتطبيق هذا البرنامج، بدعم من وزارة التربية والتعليم، وبتوجيه من قيادات مؤمنة بتطوير التعليم، هو نموذج يُحتذى به.
وقد شمل هذا البرنامج تخصصات حديثة وعملية منها:
الوسائط الإبداعية، الفن والتصميم، تكنولوجيا المعلومات، إدارة الأعمال، البناء (الإنشاءات)، الهندسة، الضيافة، الشعر والجمال، السياحة والسفر.
وإذا كان هذا هو النتاج المذهل الذي رأيناه اليوم من طلاب ما يزالون في بدايات هذا البرنامج وفي المعرض الإنتاجي الأول من نوعه، فهل يسع خيالنا أن نتوقع ما الذي يمكن أن نراه في السنوات اللاحقة؟
أنا شخصيًا متشوقة ومتفائلة لرؤية ما لا أستطيع حتى تخيله الآن من إبداعات جيل التكنولوجيا في العقبة.