الالتهاب الكبدي قاتل الأطفال ينتشر في العالم.. ما تحتاج إلى معرفته حتى الآن
في الوقت الذي ما زال العالم يحاول فيه العودة إلى حياته الطبيعية، بعد أكثر من عامين على بداية جائحة “كوفيد-19″، لا تنفك الأنباء عن ظهور أوبئة جديدة تطل برأسها بين فينة وأخرى، تُثير زوبعة من القلق ثم تهدأ. ولكن هذه المرة يبدو أن الأمر حقيقي، ويدعو للحذر واتخاذ الحيطة، إذ يبدو أن هذا المرض الكبدي الغامض الجديد ينتشر بخطى ثابتة منذ أول ظهور له في الولايات المتحدة شهر أكتوبر/تشرين الأول 2021 وحتى هذه اللحظة. في ظل الغموض الذي يكتنف هذا المرض الجديد، لا بد من توخي الحذر عند استقاء المعلومات، وتحرّي المصادر الموثوقة للحصول على الحقيقة.
مرض جديد
بالنسبة للولايات المتحدة، بدأ الأمر باكتشاف 9 حالات من الالتهاب الكبدي الحاد غير معلوم السبب في أطفال تقل أعمارهم عن 6 سنوات (1)، لكن الأمر لم يسترعِ انتباه الجهات المعنية، مثل منظمة الصحة العالمية، إلا عندما بدأ ينتشر في المملكة المتحدة. في الخامس من إبريل/نيسان المنصرم، أُبلِغت منظمة الصحة العالمية عن تشخيص 10 حالات من الالتهاب الكبدي الحاد غير معلوم السبب، في أطفال تتراوح أعمارهم بين 11 شهرا و5 سنوات، في اسكتلندا، 9 من هذه الحالات بدأت تعاني من الأعراض منذ شهر مارس/آذار الماضي. بحلول الثامن من إبريل/نيسان، وصل العدد إلى 74 حالة في أنحاء المملكة (2).
وصل عدد حالات الإصابة بالالتهاب الكبدي غير معلوم السبب إلى 228 حالة في بعض التقديرات.
وفقا لأحدث الإحصاءات المنشورة بدورية “جورنال أوف هيباتولوجي” (Journal of Hepatology) بتاريخ 6 مايو/أيار الجاري، فإن عدد الحالات التي اكتُشِفت حتى الآن وصل إلى 191 حالة في 20 دولة على مستوى العالم (3)، وفي تقارير أخرى وصل العدد إلى 228 حالة (4). حتى الآن، لا يوجد دليل على انتشار هذا المرض الجديد داخل حدود الوطن العربي، إلا من 12 حالة شُخِّصت داخل الأراضي المحتلة. تتركز الحالات خاصة في دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة واليابان، في الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 1-16 عاما. وهنا يجب أن نتساءل: لماذا يخص هذا المرض الأطفال دونا عن البالغين؟
الفيروسات الغدية
على الرغم من الفحوص الدقيقة التي خضع لها المصابون، فإن السبب الحقيقي وراء هذا المرض لم يُكتشف بعد. في البداية، استُبعِدت الأسباب الشهيرة للالتهاب الكبدي الحاد في الأطفال، مثل الفيروسات الكبدية “أ” و”ب” و”ج” و”د” و”هـ”. بالإضافة إلى ذلك، استُبعِد السفر بين الدول بوصفه وسيلة لانتقال هذا المرض بين الأفراد. ما عُثِر عليه في نسبة من الحالات هو أحد أنواع الفيروسات الغدية المُسمى بـ (F type 41)، بنسبة 75% من الحالات داخل إنجلترا، و50% من الحالات في اسكتلندا (5).
ولكن هذا لا يعني أن الفيروس الغدي هو السبب الرئيسي في حدوث الإصابات، فالفيروسات الغدية هي مجموعة من الفيروسات التي تستهدف الأغشية المخاطية المبطنة لأعضاء الجسم، مثل العينين ومجرى الهواء والرئتين والأمعاء ومجرى البول وأحيانا الجهاز العصبي. هناك على الأقل 50 نوعا من الفيروسات الغدية التي تستطيع إصابة الإنسان بالمرض، ولكن في معظم الحالات لا تكون الأعراض خطيرة وتُشفى من تلقاء نفسها دون علاج. لا بد أنك تعرضت للإصابة بأحد هذه الفيروسات في فترة ما في حياتك، فمن المُقدَّر أن جميع الأطفال أُصيبوا بأحد أنواع الفيروسات الغدية قبل بلوغ سن 10 سنوات (6).
مجموعة من الفيروسات الغدية تحت الميكروسكوب
تُصيب هذه الفيروسات الصغار أكثر من البالغين، وتنتقل عن طريق الرذاذ المتناثر من السعال والعطس، وتستقر على الأسطح لتنتقل بعد ذلك باللمس. لهذا تنتشر الإصابات خاصة في الحضانات والمدارس وأماكن تجمعات الأطفال عموما. تستطيع هذه المجموعة من الميكروبات أن تُصيب الإنسان بعدد من الأمراض، مثل التهاب الشعب الهوائية، ونزلات البرد، والالتهاب الرئوي، والتهاب الأذن، بالإضافة إلى النزلات المعوية والإسهال أو التهابات مجرى البول. ولكن ليس من المعروف عنها -حتى الآن- أنها تتسبب في التهاب كبدي حاد في الأطفال ذوي المناعة الطبيعية، الذين لا يعانون من أي أمراض مزمنة.
لذا، على الرغم من العثور على الفيروس الغدي المُسمى (F41) لدى عدد كبير من حالات الالتهاب الكبدي غير معلوم السبب، فإن وجود هذا الفيروس وحده لا يكفي لتفسير حدوث الالتهاب الكبدي، إنما يُرجِّح الباحثون أنه عامل مساعد لسبب آخر ما زال قيد البحث.
المرض الأصفر
لا تختلف أعراض الالتهاب الكبدي الحاد غير معلوم السبب عن أي التهاب كبدي آخر. يبدأ الأمر بأعراض تُصيب الجهاز الهضمي، مثل القيء والإسهال والمغص، ثم ظهور “الصفراء” (Jaundice)، وهي تَحوُّل بياض العين إلى اللون الأصفر، بالإضافة إلى اصفرار الجلد نتيجة ارتفاع نسبة “البيليروبين” (Bilirubin) في الدم، وهي مادة صفراء اللون تنتج عن تكسير كريات الدم الحمراء القديمة. يحدث هذا نتيجة الالتهاب الحاد في خلايا الكبد، الذي يتسبب في زيادة نسبة الإنزيمات الكبدية (AST & ALT) لأكثر من 500 وحدة دولية لكل لتر، علما بأن النسبة الطبيعية لا ينبغي أن تتجاوز 40-50 وحدة دولية لكل لتر.
تحوُّل بياض العينين إلى اللون الأصفر إحدى علامات الإصابة بالالتهاب الكبدي.
على الرغم من أن الأعراض في معظم الحالات لم تكن شديدة الخطورة، فإن الكثير من الحالات استدعت الحجز في المستشفى. صحيح أن العدد الأكبر من الأطفال المصابين تعافى بالفعل، لكن 11 طفلا على الأقل في المملكة المتحدة وحدها أُصيبوا بالتهاب كبدي شديد أدى إلى ضرورة إخضاعهم لعملية زراعة كبد جديد (7). وصل عدد حالات زراعة الكبد نتيجة للإصابة بهذا المرض إلى 17 حالة على مستوى العالم حتى 23 إبريل/نيسان المنصرم (8).
وفقا لجريدة “ذا واشنطن بوست” (The Washington Post)، فقد رُصدت 5 وفيات في الأطفال المصابين بالالتهاب الكبدي الحاد في الولايات المتحدة (9)، بينما يُشير تقرير منظمة الصحة العالمية إلى حدوث حالة وفاة واحدة على الأقل دون تحديد المكان (10).
العامل المساعد
المثير للانتباه هنا هو العثور على فيروس “كوفيد-19” لدى بعض الحالات، إما منفردا، وإما مصاحبا للفيروس الغدي، مما أدى إلى نشوء عدة نظريات تسعى لتفسير هذه الظاهرة الغريبة. بحسب التقرير الحديث الصادر عن وكالة الأمن الصحي في بريطانيا (UK Health Security Agency)، فإن المتهم الرئيسي الآن هو الفيروس الغدي وذلك لعدة أسباب، أهمها هو انحسار موجات الإصابات بهذه المجموعة من الفيروسات خلال العامين الماضيين نتيجة إجراءات التباعد الاجتماعي وقواعد النظافة وارتداء الكمامات، والآن، بعد انفتاح العالم من جديد في الأشهر الماضية والتخلي بدرجة ما عن الإجراءات الاحترازية، عادت الإصابات بهذا الفيروس تنتشر بقوة خاصة لدى الأطفال الذين لم يتعرضوا للفيروس من قبل (11).
تفترض النظرية أن هؤلاء الأطفال بالذات أكثر عُرضة للإصابة بمضاعفات الفيروسات الغدية، خاصة الالتهاب الكبدي شديد الندرة. نظرية أخرى تُرجِّح أن موجة الإصابة العالية بالفيروسات الغدية أدت فقط إلى ظهور هذه المضاعفات النادرة بشكل أكبر ووضعها تحت دائرة الضوء، مما يعني أن الالتهاب الكبدي الناتج عن الإصابة بالفيروس الغدي ليس بالمرض الجديد، وإنما لم يكن ملحوظا فيما مضى فحسب. النظرية الثالثة تفترض أن لفيروس “كوفيد-19” علاقة غير مباشرة بالأمر، على الرغم من أنه لا يُسبِّب الالتهاب الكبدي مباشرة، ولم يُعثر عليه في كل الحالات المصابة بالالتهاب الكبدي، لكن الإصابة السابقة به ربما تؤدي إلى حدوث حساسية غير طبيعية للجسم للفيروس الغدي.
تُرجِّح إحدى النظريات أن الإصابة بفيروس “كوفيد-19” بالإضافة إلى الفيروس الغدي قد يكون السبب في الإصابة بالالتهاب الكبدي.
الأمر الآخر هو الإصابة بالفيروس الغدي وفيروس “كوفيد-19” في الوقت ذاته، إذ عُثر بالفعل على إصابات بالفيروسين معا في بعض الحالات. ذكر التقرير أيضا أسبابا أقل ترجيحا، مثل وجود عامل بيئي مشترك، كنوع من السموم أو الأدوية التي تتسبب في الالتهاب الكبدي في وجود الفيروس الغدي، أو وجود ميكروب جديد تماما يعمل وحده أو بالتعاون مع الفيروس الغدي ولم يُكتَشف بعد، أو أنه مُتحوِّر جديد من فيروس “كوفيد-19” ما زال قيد البحث.
تخشى بعض الفئات أن يكون لقاح “كوفيد-19” هو السبب، خاصة في ظل انتشار الشائعات والأخبار المضللة عن الأعراض الجانبية الخطيرة للقاحات. ولكن لا يمكن للقاح أن يكون السبب بأي شكل لسبب بسيط، وهو أن 75% من الأطفال المصابين بالالتهاب الكبدي الجديد لم يكونوا ضمن الفئات المصرح لها بتلقي اللقاح من الأساس لأنهم دون سن 5 سنوات، لذا لا يوجد رابط واضح بين تلقي اللقاح والإصابة بالالتهاب الكبدي حتى في الأطفال الأكبر سِنًّا. بالطبع لم يُثبَت أيٌّ من هذه النظريات حتى هذه اللحظة، فالنظرية التي قد تُفسِّر إحدى الحالات تفشل في تفسير حالة أخرى، لذا فلا يوجد نظرية موحَّدة أو دليل مؤكَّد يقودنا إلى السبب وراء هذا الالتهاب الكبدي، لذلك يُطلق عليه “غير معلوم السبب”.
الوقاية خير من العلاج
هذه الحالة من الغموض التي تُحيط بهذا المرض الجديد قد تدعو للقلق، فنحن لا نعلم العامل المسبِّب للمرض، بالتالي لا نعلم كيفية الوقاية منه أو علاجه بالشكل الأمثل. بالإضافة إلى ذلك، لم يُعثر على عامل مشترك بعد بين الحالات، ولا يوجد فئات محددة أكثر عُرضة للإصابة بالمرض من فئات أخرى. أيضا لم يُعرف بعد السبب وراء تدهور بعض الحالات إلى حد الحاجة إلى زراعة كبد جديد لإنقاذ حياتهم. العامل المشترك الوحيد بين جميع الحالات هو أنهم أطفال، وأنهم لا يعانون من أي أمراض مزمنة وحسب.
يجب تعليم الأطفال قواعد النظافة الشخصية وغسيل اليدين باستمرار وآداب السعال والعطس.
ولكن يمكننا اتباع توصيات مركز مكافحة الأمراض والوقاية منها (CDC)، الذي ينصح الآباء والأمهات بالانتباه لظهور أيٍّ من أعراض الالتهاب الكبدي الحاد لدى أطفالهم، وعلى وجه الخصوص تحوُّل الجلد أو بياض العينين إلى اللون الأصفر، وفقدان الشهية والقيء والإسهال والإجهاد، وأحيانا ارتفاع درجة الحرارة، بالإضافة إلى تغير لون البول إلى لون داكن يُشبه الشاي، أو تحوُّل لون البراز إلى لون أفتح من الطبيعي. هذه الأعراض لا تعني بالضرورة إصابة الطفل بالالتهاب الكبدي غير معلوم السبب، فلا بد من استبعاد الفيروسات الكبدية الشهيرة أولا قبل الوصول إلى هذا التشخيص (12).
أما عن الوقاية، فيوصي مركز مكافحة الأمراض بالاهتمام بالنظافة الشخصية، وغسل اليدين باستمرار، وتجنُّب الاختلاط بمرضى نزلات البرد والإنفلونزا والالتهابات التنفسية في العموم، بالإضافة إلى تعليم الأطفال آداب العطس والسعال الصحيحة لمنع انتشار الرذاذ المُحمَّل بالفيروس الغدي بين الأطفال.
ليس هناك الكثير مما يمكن للمواطن العادي فعله في ظروف كهذه سوى الحذر والانتباه أثناء ممارسته لحياته الطبيعية، ومتابعة الأخبار دوريا من المصادر الموثوقة فقط، واللجوء إلى المتخصصين في حالة ظهور أعراض الالتهاب الكبدي على أحد الأطفال في محيطه. وفي ظل التقدم التكنولوجي الهائل الذي أحرزته البشرية في تقنيات الكشف عن الميكروبات، لا بد أنها مسألة وقت فحسب قبل أن يعثر الباحثون على الميكروب المتهم في هذه القضية، ومن ثم يتوصَّلون إلى طرق علاجه والوقاية منه، لتمر البشرية من هذه الأزمة كما مرت من سابقاتها.
المصدر : الجزيرة