“الطربوش” في نابلس.. من رمز اجتماعي وإرث فلكلوري إلى قطعة ديكورية
22 الاعلامي –
ربما بات من قبيل الصدفة عثورك هذه الأيام على شخص يرتدي “الطربوش” في شوارع أو أسواق مدينة نابلس، التي تعد من أقدم المدن الفلسطينية بل والعربية، والتي كان ارتداء الطربوش فيها، حتى عقود خلت، تقليدًا تتوارثه الأجيال.
و”الطربوش” هو غطاء للرأس على شكل (مخروط ناقص) ذي لون أحمر، وتتدلى من جانبه الخلفي حزمة من الخيوط الحريرية السوداء تسمى بالعامية “الشرشوب”، وقد شاع استعماله في بداية العصر الحديث في بلاد الشام ومصر وبلاد المغرب.
ويقول خبير الآثار والتراث، عبد الله كلبونة، بأن الطربوش وهو زينة وغطاء للرأس يمثل مرحلة سياسية واجتماعية ودينية مهمة من مراحل تاريخ تطور المجتمع الإسلامي.
ويشير كلبونة في هذا الإطار إلى أن ظهور الطربوش في العهد العثماني قد صاحبه بروز جدال ونقاش وآراء فقهية وصلت إلى حد تكفير من يلبسه، وهذا ما حصل مع السلطان العثماني محمود الثاني الذي حكم في الفترة (1808-1839م) كان أول من لبس الطربوش من السلاطين العثمانيين، وقد أفتى بعض العلماء حينها بتكفيره على اعتبار أنه استبدل العمامة التي هي رمز المسلمين تاريخيًا بالطربوش، رغم أن السلطان قصد من وراء ذلك استحداث لباس عصري يضاهي لباس الأوروبيين، ومن باب الرد على انتشار ارتداء القبعة الأوروبية.
وفي سنة 1826م، أصدر ذات السلطان فرمانًا يفرض ارتداء الطربوش على مختلف مسؤولي الدولة من مدنيين وعسكريين، وبالتالي بدأ انتشار لباس الطربوش وعم المجتمع الاسلامي على اختلاف طبقاته.
ويوضح كلبونة، أن المؤرخين قد اختلفوا في أصل ومكان نشأة الطربوش، فبعضهم يرى أنه نشأ في المغرب وتحديدًا في مدينة فاس، ومنها انتقل إلى العثمانيين عن طريق البحّارة، ومن العثمانيين انتقل إلى مصر وبلاد الشام، ومنهم من قال إنه يعود في أصله إلى النمسا وقد أخذه عنها العثمانيون، وآخرون يعتقدون أنه من اليونان، وهناك آراء أخرى متعددة بهذا الشأن تطول الشروحات حولها.
وتشير الدلائل والوقائع إلى أن كلمة طربوش انحدرت من كلمة فارسية الأصل وهي “سربوش” وتتكون من مقطعين هما (سر) وتعني رأس، و(بوش) وتعني غطاء أي غطاء الرأس، وقد عُربت فأصبحت “شربوش”، ثم حُرّفت وأصبحت “طربوش”.
ويصنع الطربوش من الصوف (اللباد) أو القش ويدور عليها ورق يلصق ويكوى ثم يدورع ليها قماش من جوخ، ثم يعلق على طرفه من الخلف مجموعة متساوية الأطوال من خيوط الحرير والتي تثبت بمشبك، وتصنع الطرابيش بمقاييس دقيقة وقوالب نحاسية خاصة بصناعته، وقد كانت ألوانه ما بين الأحمر الغامق والفاتح، وأطواله تتراوح ما بين 20 إلى 30 سم تقريبًا، وقطره متغير حسب حجم الرأس.
ويذكر كلبونة أن صناعة الطربوش واستعمالاته من قبل مختلف فئات الشعب قد دخلت بلاد الشام منذ أوائل القرن التاسع عشر الميلادي، وبالتحديد مع حمله ابراهيم باشا قائد والي مصر الذي احتل بلاد الشام لمده تسع سنوات أي حتى سنة 1840م.
ويشير إلى أن سكان مدينة نابلس قد أقبلوا منذ ذلك الوقت على ارتداء الطرابيش، وأصبح ذلك ضمن العادات الاجتماعية والثقافة الفلكلورية، لدرجة أنه أصبح من المعيب على الرجل أن يمشي مكشوف الرأس ومن دون طربوش، وقد أصبح اقتناء أو تفصيل الطرابيش من مستلزمات اللبس ومقتضيات الأعياد والمناسبات الاجتماعية المختلفة.
وفي البداية كان يتم استيراد الطرابيش من خارج نابلس، إلا أن الأهالي سرعان ما أسسوا مشاغل خاصة لصناعتها داخل المدينة تبعًا للحاجه والطلب، ومن أسماء الذين اشتهروا في صناعتها في المدينة، فهمي رجب المصري (أبو رجب) وكان محله يقوم قرب باب الساحة وسط البلدة القديمة، وقد ظل محله يعمل حتى نهايه العهد الأردني، وكذلك سبع العيش الذي كان محله يقع إلى جوار مقهى الشيخ قاسم شرقي باب الساحة، وكان الاثنان وآخرين، على الأرجح، من الوارثين لهذه المهنة عن آبائهم أو أجدادهم من العهد العثماني.
وقد أخذت صناعه الطرابيش وارتدائها بالتراجع والانتهاء التدريجي بعد أن سقطت الدولة العثمانية سنة 1918م، وقام “كمال أتاتورك” بإصدار قانون بمنع لبس الطربوش سنة 1925م، وفي مصر أصدر الرئيس جمال عبد الناصر سنة 1952م، قرارًا بعدم لزوم لبسه من قبل موظفي وعسكر الدولة، أما في فلسطين فإنه مع ثورة 1936م، أصبح ينظر لمن يلبس الطربوش كمعارض للثورة، بالتالي حلت الكوفية مكانه عند الكثيرين ومنهم أهالي نابلس.
ويقول كلبونة بأنه كان لكيفية ارتداء الطربوش فوق الرأس في نابلس دلالات خاصة تعبر عن حالة صاحبه، فعندما يكون الطربوش مائلاً إلى الأمام يعني أن صاحبه مرتاح ومبسوط ماديًا، وعندما يكون مائلاً للوراء يعني عكس ذلك. كما برزت مصطلحات مثل “معنكر طربوشة” أي انه متعالٍ ومرتاح.
لقد اختفى ارتداء الطربوش في نابلس بشكل شبه كلي، ولم يعد له أية دلالات سياسية أو اجتماعية، ولم يعد يرتديه سوى بعض رجال الدين، كما يلحظ ارتداء أبناء الطائفة السامرية للطرابيش خاصة في مناسباتهم الدينية، وبدلاً من ارتدائها كغطاء للرأس أصبحت الطرابيش لا تعدو كونها قطعًا ديكورية، وربما يرتديها البعض للحظات من أجل التقاط صورة تذكارية فقط.
المصدر -القدس