الهوية والتراث كابوس يفزع العدو
بقلم: د. نجلاء الخضراء
لا تقتصر معرفة فلسطين على معرفة جهادها ونضالها في هذا العصر ولا تتم الصورة إلا بالاطّلاع على جذور حضارة هذا البلد الطيب منذ القدم. فالحاضر نتيجة الماضي، والمستقبل وليد الحاضر، والتاريخ حلقات مرتبطة، لذا كان احياء التراث الشعبي والحفاظ على خصائصه الفنية وإظهار أصالته شرط من شروط تخليد الحضارة العريقة. وهو مظهر لثقافة الشعب عبر التاريخ.
إن العلاقة قوية بين الهوية والتراث، فالتراث هو تعبير عن هوية الأمة وخصوصيتها، كما أن التراث يساعد في بلورة الهوية والأهداف الوطنية من خلال تجميع أبناء الشعب الواحد حول تلك الأهداف وحول القيادة الوطنية.
إن التراث الشعبي هو المكون الأساسي لهوية الشعوب والمعبر عن همومهم ومعاناتهم وطموحاتهم، ويمثل عامل ترابط اجتماعي بين أبناء الوطن الواحد من مختلف الطبقات، ويزداد التمسك بهذا التراث عند الشعور بالخطر على الكيان وعلى الهوية الوطنية. ويشكل التراث بما يحتويه من عناصر ثقافية وحضارية مثل الحكايات والفنون والأشغال الحرفية والحكايات والقصص الشعبية، الكثير من الرموز التي قد يستخدمها السياسيون لتعبئة الجماهير لأغراض سياسية من أجل تعزيز الوعي الوطني أو مقاومة الخطر الأجنبي.
وعلى هذا الأساس فإن التراث يشكل صراعًا إيديولوجيًا بين الفئات المتصارعة على الحاضر من أجل السيطرة على مشاريع المستقبل، وأن هذه الفئات تتجه للماضي لتشحن منه ما يعتقد أنه السيطرة على الحاضر.
إن للتراث الشعبي الفلسطيني دورًا هامًا وفعالا في بلورة الهوية الوطنية الفلسطينية، ولقد أخذ الاهتمام بالحفاظ على التراث يظهر بصورة واضحة ومنظمة بعد حرب 1967 عندها شعر الفلسطينيون بأهمية المحافظة على الهوية المهددة بالنفي والضياع، فقاموا من داخل فلسطين وخارجها، بدور فعال في رعاية التراث وحمايته من خطر الطمس والتزوير على يد “الاحتلال الإسرائيلي”، فكانت النشاطات الجماهيرية الواسعة على المستوى السياسي والاجتماعي والثقافي لرعاية التراث، وإقامة الفرق والمعارض والمتاحف والمهرجانات داخل فلسطين وفي مختلف دول العالم، وذلك من أجل نشر التراث والتعريف بالهوية الفلسطينية.
ظهر دور التراث الشعبي في حياة الفلسطينيين الاجتماعية والسياسية، بصورة متوازية مع ظهور الحركة النضالية، وكان للتراث دور مميز في كل مرحلة من مراحل النضال الفلسطيني، بما يتناسب مع الوضع السياسي.
ففي زمن النكبة عام 1948 مثلا كان التراث الشعبي يعكس الحالة النضالية للشعب الفلسطيني، وظهر ذلك من خلال الأغاني التي تشكل أحد أبرز عناصر التراث في الكلمات والألحان التي تعبر عن الحنين للوطن والحزن والاشتياق للأرض وللأهل، وكانت مخيمات اللجوء تعكس العادات والتقاليد التي كانت سائدة في الوطن، قبل الشتات.
أما في العام 1967 فكانت كلمات الأغاني تتضمن تعبئة الجماهير ضد الاحتلال الإسرائيلي، وفيها تعبير عن آمال الشعب الفلسطيني وطموحاته في تقرير المصير والحرية والاستقلال.
اتخذ الفلسطينيون من التراث الشعبي رموزا لهم، للدلالة على هويتهم، ومصادر الرموز الفلسطينية كثيرة ومتنوعة، تكونت بفعل الأحداث التاريخية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي تعرض لها الشعب الفلسطيني، ومن أبرز هذه الرموز المعالم الدينية والأثرية التي حباها الله لفلسطين، فكانت رمزًا مقدسًا للعرب وللمسلمين وللمسيحيين، وعلى رأسها المسجد الأقصى وقبة الصخرة المشرفة، وكنيسة القيامة في مدينة القدس وكنيسة المهد في مدينة بيت لحم، وكنيسة البشارة في مدينة الناصرة، والمسجد الإبراهيمي في مدينة الخليل، بالإضافة إلى مقامات الأنبياء والأولياء والصالحين.
كما شكل القادة والشهداء الفلسطينيون والعرب الأبطال رموزا نضالية، في وجه الاحتلال مثل صلاح الدين الأيوبي وعز الدين القسام، الذين خلّفا فكرًا ثوريًا ونضاليًا وطنيًا باقيًا، ورغم أن عز الدين القسام توفي منذ بداية الثورة إلا انه أسقط فكرة التنظيم الثوري في نهج المقاتلين من بعده وكانت له انتصارات عديدة.
ومن الرموز الوطنية أيضًا المدن والقرى الفلسطينية التي دمرها المحتل الإسرائيلي، والتي غير بعض أسمائها من العربية إلى العبرية، مثل قرية الجورة التي تقع شمال مدينة غزة، وقرية جمزو التي تقع إلى الغرب من مدينة اللد.
كما تعد الملابس الفلسطينية وبالأخص الأثواب المطرزة رمزًا فلسطينيًا يستدل به على الهوية الوطنية، ويستطيع الناظر إلى الثوب معرفة المنطقة أو القرية التي تنتمي لها المرأة التي ترتديه، وكذلك الحطة الفلسطينية البيضاء مع الخطوط السوداء فيها، والتي اشترك فيها الفلسطينيون مع غيرهم من العرب، تعد رمزا نضاليا، ظهرت بكثافة في الانتفاضتين الأولى والثانية إذ ارتداها أطفال الحجارة وشبان المظاهرات وحتى المتضامنون الأجانب.
ويضاف إلى الرموز السابقة المأكولات الشعبية، واللهجة الفلسطينية، والصناعات التقليدية والأغاني الشعبية، التي تشكل رموزا وطنية تدل على الهوية الوطنية الفلسطينية.
لهذا السبب قامت ” إسرائيل ” بالاعتداء على الهوية الوطنية الفلسطينية، وطالت التراث الشعبي والثقافي للشعب الفلسطيني المادي كأماكن العبادة والأماكن التاريخية، والتراث الغير مادي كالحكايات الشعبية والقصص والرقصات الشعبية، وقامت بعمليات الطمس والتزوير والادعاء الكاذب والتشويه. بهدف محو الهوية والتاريخ الفلسطيني وتسهيل احتلال الأرض والشعب، فهي تعلم جيدا أن التراث هو مصدر قوة وصمود هذا الشعب. ولأن التراث الشعبي هو قلعة الصمود ولأن الثقافة هي حصنها المنيع ولأن الهوية هي صلبها وهيكلها توجب على كل فلسطيني المحافظة على هذا الكنز الثمين والسلاح الفتاك وصونه وتطويره بما يضمن أصالته ونقله للأجيال القادمة وتسليحهم به تماما كما تنقل لهم فكرة النضال وتحرير الأرض والثورة والانتفاضة ورسم طريق العودة.
دنيا الوطن