مبدعون يفضحون عنجهية الاحتلال الإسرائيلي
داود الفرحان – كاتب عراقي
ربما هذه هي المرة الأولى التي ترفض فيها أديبة أجنبية محدودة الشهرة عرضاً لترجمة روايتها إلى لغة أخرى مقابل عائد مالي مغرٍ. الكاتبة والأديبة الآيرلندية سالي روني ذات الثلاثين عاماً فعلت ذلك مع روايتها الجديدة «أيها العالم الجميل من أنت؟». وكانت هذه الرواية تصدرت قائمة أكثر الكتب مبيعاً على موقع «أمازون»، أما دار النشر التي قدمت هذا العرض فهي «مودان» الإسرائيلية.
وأعلنت الأديبة الشجاعة في بيان نشرته يوم الثلاثاء الماضي «أن التقارير الأخيرة التي نشرتها منظمة حقوق الإنسان (هيومان رايتس ووتش) ومنظمة (بتسليم) الحقوقية الإسرائيلية، أكدت ما تقوله جماعات حقوق الإنسان الفلسطينية منذ فترة طويلة (أن إسرائيل تمارس السيطرة العنصرية والفصل العنصري ضد الفلسطينيين، وهو ما يتوافق مع تعريف نظام الفصل العنصري بموجب القانون الدولي)».
وما يلفت النظر في هذا الموقف الإنساني، أن الأديبة سالي روني اختارت الآن عدم بيع حقوق ترجمة روايتها إلى دار نشر مقرها إسرائيل. وهي تعترف أنها كانت فخورة جداً بترجمة رواياتها السابقة إلى العبرية، لكنها الآن مع افتضاح عنصرية إسرائيل لا تستطيع التعاون مع شركة إسرائيلية لا تنأى بنفسها علانية عن الفصل العنصري، ولا تدعم حقوق الشعب الفلسطيني التي نصت عليها الأمم المتحدة. وعبّرت الروائية بذلك عن تضامنها مع الشعب الفلسطيني في نضاله من أجل الحرية والعدالة والمساواة.
ورحبت «الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية الثقافية لإسرائيل» بانضمام المؤلفة الإيرلندية إلى عدد لا يُحصى من المؤلفين الدوليين في دعم المقاطعة الثقافية المؤسسية لقطاع النشر المتواطئ في إسرائيل العنصرية، تماماً كما فعل المثقفون والفنانون التقدميون في العالم ذات يوم بمقاطعة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. وفي رد فعل غاضب، تم سحب كتب سالي روني من المكتبات الإسرائيلية، وهي ليست الوحيدة في هذا الموقف المشرف. أمامي قائمة بهذه الأسماء المتوهجة: ماريو فارغوس يوسا من مواليد بيرو وجنسيته إسباني، وهو كاتب وسياسي وصحافي وبروفسور جامعي. وله تأثير عالمي وجمهور دولي جعله من أهم روائيي أميركا اللاتينية وصحافييها. فاز في عام 2010 بجائزة نوبل في الأدب عن «خرائط هياكل القوة التي رسمتها أعماله وتصويره النيّر لمقاومة الفرد وثورته وهزيمته».
خاض يوسا في عام 1990 انتخابات الرئاسة في بيرو وخسرها، وهو صاغ عبارة خارقة مثل صاروخ ضال تقول «المكسيك هي الديكتاتورية المُثلى». وتحولت هذه الشرارة إلى قول مأثور خلال العقد التالي وجملة مفيدة في العلوم السياسية مع تغيير اسم «المكسيك» إلى أي دولة أخرى لا تعجبك.
تلقت إسرائيل صدمة كبيرة من ماريو يوسا الذي كانت تتباهى بكونه صديقاً لها بعد أن أصبح نوبلياً؛ إذ قال عنها «إن إسرائيل أصبحت دولة قوية ومتعجرفة»، مؤكداً أنه يشعر بالخجل لأنه كان صديقاً لها.
حين زار يوسا فلسطين في عام 2005 مع ابنته سجّل انطباعاته في كتاب بعنوان «إسرائيل… فلسطين: سلام أم حرب مقدسة؟» ولقي الكتاب ردود فعل مختلفة بين الجالية اليهودية في أميركا اللاتينية بعد أن قال «ليس في إمكان أحد أن يتهمني بأحكام مسبقة ضد إسرائيل؛ فقد دافعتُ دائماً عنها، لكني شاهدت الأمور بأم عيني وشعرت بالاشمئزاز والتمرد على البؤس الفظيع الذي لا يوصف. شاهدت القمع لأناس بلا عمل ولا مستقبل ولا مجال حيوي يعيشون في مغارات ضيقة لا تطاق في مخيمات اللاجئين أو في المدن المكتظة المغطاة بالقمامة. إنها الأسر الفلسطينية المحكوم عليها بالعيش كالنبات في انتظار الموت، لتضع حداً لوجود بلا أمل، في انعدام قاطع لما هو إنساني».
أتحدى أن يكون هناك أديب عربي شخّص حالة الفلسطينيين الأباة مثل ما شخّصها ماريو فارغوس يوسا القادم من أميركا اللاتينية على بُعد أكثر من 12 ألف كيلومتر من فلسطين.
ومن هذا الرجل ننتقل إلى السيدة الكاتبة الأميركية الحائزة جائزة نوبل لعام 1993 توني موريسون ذات الأصول الأفريقية والتي كرّست حياتها لرفض العنصرية تجاه السود في المجتمع الأميركي. وقد وصفت موريسون إسرائيل بأنها دولة فصل عنصري خلال توقيعها على رسالة بالاشتراك مع 17 كاتباً آخر في عام 2006 ندّدت فيها بالإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين، ووصفت وضع إسرائيل بأنه «احتلال غير شرعي»؛ ما دفع النقاد إلى وصف الرسالة بأنها من أقسى الرسائل التي وجهت إلى إسرائيل من قِبل كتاب عالميين. وقد توفيت هذه المبدعة في عام 2019 عن عمر 88 عاماً و11 رواية ومسرحيتين ونَصْ أوبرالي استعرضت فيه تاريخ الأميركيين الملونين. وتم إنتاج روايتها «محبوبة» في فيلم سينمائي عن طفولة المذيعة الأميركية الشهيرة أوبرا وينفري. وكانت مقرّبة من الرئيسين السابقين بيل كلينتون وباراك أوباما.
أما أشهر كاتب أفريقي من غير العرب، وهو وول سوينكا النيجيري، فقد طالب بمقاطعة إسرائيل بعد أن سافر إلى القدس وعاش معاناة الفلسطينيين. وهو حائز جائزة نوبل في الآداب عام 1986 عن رواياته ومسرحياته (قبل أن ينالها الأديب المصري نجيب محفوظ بعامين). وعاش حياته بين السجون والمنافي لتزعّمه مظاهرات شعبية ضد الفساد والجرائم.
يؤمن سوينكا أن إسرائيل تمارس سياسة التمييز العنصري ضد الشعب الفلسطيني. وهو يقول «الأرض ليست من وسائل الترف. توجد علاقة عاطفية بين الناس والأرض». وطالب المثقفين في أنحاء العالم بمقاطعة إسرائيل «يجب فعل شيء ما. هناك حاجة إلى أن تفهم إسرائيل أن سلوكها غير مقبول، ويجب على الأكاديميين أن يكونوا في طليعة المطالبين بالمقاطعة الثقافية والرياضية والاقتصادية لهذا النظام».
ويستمر موكب أصحاب الضمير الإنساني، فهذا الروائي والشاعر الألماني غونتر غراس الحاصل على نوبل للآداب في عام 1999 لا يملّ من مهاجمة إسرائيل، وكتب في عام 2012 قصيدة عنوانها «ما ينبغي أن يقال» ضد السياسة الإسرائيلية جاء فيها «لماذا أمنع نفسي من تسمية ذلك البلد الآخر الذي يمتلك منذ سنوات، رغم السرية المفروضة، قدرات نووية متنامية خارج نطاق السيطرة لأنه لا توجد إمكانية لإجراء المراقبة. فالسكوت العام عن هذا الواقع الذي أنطوي تحته بصمت، أحسه الآن كذبة تثقلني. في الأفق تلوح لي عقوبة معاداة السامية». ووجّه كلامه لمن انتقده «سئمت نفاق الغرب لإسرائيل».
ومن أدباء نوبل أيضاً الروائي الفرنسي جان ماري جوستاف الحائز الجائزة في عام 2008 بعد روايته «النجمة التائهة» التي نشرها في مجلة الدراسات الفلسطينية (الطبعة الفرنسية) وصدرت في عام 1993. وتدور هذه الرواية حول مأساة اللاجئين ومخيماتهم وخداع إسرائيل لليهود في العالم من خلال امرأتين الأولى يهودية فرنسية اسمها استير، والأخرى فلسطينية اسمها نجمة. السيدة الأولى اليهودية اكتشفت الخدعة الإسرائيلية عن أرض الميعاد، والثانية الفلسطينية تسكن في المخيمات. وتظل الرواية عالقة والنهاية مفتوحة على كل الاحتمالات. لم يتوقف جوستاف عن مناصرة القضية الفلسطينية في رواية «النجمة التائهة» فقط، لكن تصريحاته يُحرج فيها دائماً إسرائيل، وهو يؤمن أن الفلسطينيين ستكون لهم دولتهم في نهاية المطاف.
في عام 2013 وقّع ثلاثة من الحاصلين على جائزة نوبل، غير الذين أشرنا إليهم، على عريضة طويلة لرفض العدوان الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية. وجاء فيها «كلٌ منا يحمل التزاماً أخلاقياً في محاولة لتخفيف المعاناة بشيء ما يرفع يد الاحتلال الكبيرة والقاسية». و«إذا لم يكن بوسعنا تحقيق السلام اليوم فأقل ما يمكننا فعله هو فضح وإدانة العدوان المستمر». ووقّع العريضة ثلاثة من حاملي جائزة نوبل للآداب هم، الكاتب التركي أورهان باموق، والألمانية هيرتا مولر، والكاتب الجنوب أفريقي جون ماكسويل كوتيزي.
نعم. ضمائر كبار أدباء العالم حيّة، وقد وقّعت خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة 64 شخصية دولية، من بينهم 6 شخصيات نالت جائزة نوبل للسلام على بيان يطالب بفرض حصار عسكري على إسرائيل لارتكابها جرائم حرب.
ووقّع 600 موسيقي من مجموعة «موسيقيون من أجل فلسطين» البريطانية رسالة جاء فيها «بصفتنا موسيقيين لا يمكننا أن نصمت. فاليوم من الضروري أن نقف مع فلسطين وندعو للتأكيد على التضامن مع الشعب الفلسطيني، لكن الصمت إزاء جرائم الحرب الإسرائيلية لم يعد اليوم خياراً. ندعوكم للانضمام إلينا في رفض أداء الأعمال الفنية في المؤسسات الإسرائيلية المتواطئة مع العدوان، والوقوف بحزم في دعم الشعب الفلسطيني وحقه الإنساني في السيادة والحرية».
بعد بيانات وعرائض وتواقيع كل هؤلاء المبدعين، ألم يحن الأوان لعقد مؤتمر عربي عالمي، حكومي أو غير حكومي، لسماع غير ما تقوله الولايات المتحدة وإسرائيل؟
صحيفة الشرق الاوسط