سهرة أمام المزراب
حلمي الاسمر
تعود علاقتي بشجرة الزيتون إلى ما قبل نصف قرن مضى، حيث كنت أرافق أمي رحمها الله لجمع ما يبقى من حبيبات زيتون في الكروم المحيطة بمخيم طولكرم بعد أن يجمع أصحاب الكروم ثمار أشجارهم، وكانت هذه العملية تسمى “التبعر” وكان أحدهم يسأل: إلى أين اليوم؟ فيجيب أو تجيب صاحب أو صاحبة الفعل: رايح أتبعر زيتون!
وكنا نقطع في هذه العملية عشرات الكيلومترات في الجبال المحيطة بالمخيم، ونقلب مئات الأشجار، حيث من الصعوبة بمكان أن تجد الكثير من الثمار على شجرة تم جمع ثمارها، وقد لا نحصل من الشجرة إلا على حبة أو حبيبات من الزيتون توارت وراء الأوراق، فأخطأتها عين الفلاح.
كان هذا أحد أنماط عيش حياة أهل المخيم، الذي أقيم بعيد “النكسة” و “الهجرة” من أجمل بقاع فلسطين: يافا وما حولها، وتلك حكاية لطالما رواها الراوون، وكتب عنها الكتاب والشعراء، ولكن أحدا من هؤلاء ليس له أن يبلغ “بلاغة” أمي أو أبي رحمهما الله، وهما يرويان لنا حكاية اللجوء، وترك بيت الأسرة الذي كانا فرغا للتو من بنائه، ليعودا إليه بعد “النكسة” لاستئذان من يسكنه من يهود اليمن، ليتفقدا حجراته!
قبل أيام، عشت تجربة مثيرة مع هذه الشجرة المباركة، حيث أمضيت سحابة اليوم وأنا أجمع ثمارها من شجيرات زرعتهن في بيت ريفي في البادية الأردنية قبل نحو عشرين عاما، وما أن فرغنا من جمع الثمار حتى شددنا الرحال إلى “المعصرة” يعني “من الشجر للحجر” ووجدت نفسي أخيرا في الهزيع الأخير من الليل جالسا أمام “مزراب” الزيت في المعصرة، وأنا أرى زيتي ينساب في الإناء، وتلك تجربة لا يمكن لأحد أن يصف سحرها إلا إذا مر بها.
ولم أستطع في تلك الدقائق القصيرة أن أركز كثيرا على صنبور الزيت المذهل، سوى لدقائق قليلة، فقد شرد ذهني بعيدا عن أحوال وأهوال هذه الشجرة، في فلسطين والأردن، وحكاية الفلاحين معها، ومدى تغلغلها في مخيالهم ووجدانهم الجمعي، ومدى ارتباط حياتهم بها، وتمنيت لو أن لي العشرات من هذه الشجرة، ليس لأستزيد من زيت مبارك لا يداني طعمه طعم زيت آخر فقط، بل كي أعيش التجربة مرارا وتكرارا، وبصدق تام، ورغم معرفتي الواسعة بحال فلسطين وما مر بها من توحش الاحتلال، فهمت لحظتها أكثر سر تلك الهجمات التي يقوم بها مجرمو الصهاينة ضد هذه الشجرة تحديدا، وتعمدهم تخريبها ومنع أصحابها من الوصول إليها لجني ثمارهم، وفهمت أكثر سر تغلغل حب هذه الشجرة في وجدان من زرعها!
بالنسبة للأردن، تقول المعلومات إن إحدى قرى منطقة رم جنوب البلاد، هي أقدم منطقة في العالم زرعت بأشجار الزيتون، وفق عملية تحليل الرماد في مواقد القرية التي يعود تاريخها إلى العصر النحاسي (نحو 5400 قبل الميلاد) حيث اكتشف فريق آثار متخصص عن طريق تحليل الرماد في ثلاثة مواقد في القرية استمرار الاستيطان فيها إلي فترة طويلة جدا تعود إلي العصر النحاسي والبرونزي والحديدي والنبطي. وبين أن أهم اكتشاف هو تحليل الفحم في المواقد الذي رفع الستار عن أقدم زراعة للزيتون في العالم يعود تاريخها الي 5400 قبل الميلاد في حين كان تاريخ أقدم زراعة للزيتون في العالم يعود إلى 4200 قبل الميلاد الأمر الذي يؤكد أن رم هي أقدم منطقة زرعت الزيتون في العالم، واليوم تحتل شجرة الزيتون في الأردن مكانة رفيعة، حيث تحتل المملكة مرتبة بين أول عشر دول تنتج زيت الزيتون، ويشتهر الزيت الأردني بكونه أحد أهم أكثر الزيوت جودة.
في فلسطين الحكاية كلها اليوم تتركز على مدى الحقد الصهيوني على هذه الشجرة، لأنها غدت رمزا وطنيا تختزل الرواية الفلسطينية حول مدى ارتباط الفلسطيني بأرضه، حسب اللجنة الدولية للصليب الأحمر دمر المستعمرون الصهاينة أكثر من 9300 شجرة في الضفة الغربية بين أغسطس 2020 وأغسطس 2021 فقط مما يضاعف الآثار الضارة بالفعل لتغير المناخ، ناهيك عن تدمير اقتصاد حياة المئات من الأسر الفلسطينية، ولاحظت اللجنة الدولية على مدى سنوات ارتفاعًا موسميًا في أعمال العنف التي يرتكبها المستوطنون الصهاينة المقيمون في بعض المستوطنات والبؤر الاستيطانية في الضفة الغربية تجاه المزارعين الفلسطينيين وممتلكاتهم في الفترة التي تسبق موسم قطف الزيتون، وسط جو من الإفلات من العقاب، وربما بتشجيع من سلطة الاحتلال!
لا تخطىء العين المغزى من تركيز الصهاينة على إيذاء الفلسطينيين باستهداف شجرة الزيتون، فهي وأبناؤهم سواء في المكانة من حيث الحب والاهتمام، وهي رمز وطني ضارب في المخيال الشعبي الفلسطيني، وأي إيذاء لها هو محاولة لإيقاع أكثر الآلام توحشا بهذا الرمز، ومن لم يتح له السهر أمام ذلك المزراب الساحر، الذي يتدفق بسائل ذهبي بالغ الروعة، هو خلاصة روح تلك الشجرة المباركة، يصعب عليه أن يدرك تلك المكانة التي تحتلها شجرة الزيتون في وجدان من زرعها.
موقع عربي21