مقالات

الشعبوية والنخبوية في الإعلام العربي

هاني بشر

يحذر خبراء الاقتصاد الأشخاص الناجحين من فخ المثالية أثناء تأسيس أعمالهم الخاصة، فقواعد الموظف الناجح تختلف عن قواعد المدير الناجح. فالموظف الناجح يحرص على تجويد عمله وضمان خلوه من العيوب، فيما يحتاج المدير الناجح لتمرير بعض الأخطاء البسيطة من أجل ضمان سير العمل، إما لأنها لا تؤثر على العمل فعلا، أو لأنه يرمي إلى تصحيحها مع الوقت. الأمر ذاته ينطبق على الخطاب الإعلامي، فالعالم أو المفكر أو الصحفي الموهوب المهموم بالأفكار والمعلومات وإنضاجها غير مشغول بالانتشار الواسع بقدر حرصه على تجويد بضاعته الثقافية، والعكس صحيح.

هذه الظاهرة موجودة في العالم كله، لكن وجود مؤسسات صحفية قديمة وتقاليد راسخة في العديد من الدول المتقدمة يضمن تقليص حجم آثارها السلبية، بعكس الوضع عندنا في العالم العربي. الأمر عندنا متروك لإبداع وعبقرية الكاتب أو الصحفي أو المشتغل بالعمل الإعلامي بشكل عام، وكان الوضع فيه قدر من التوازن خلال العقود التي سبقت الثورات العربية، حتى وصلنا بسبب الاستقطاب السياسي الحاد إلى انتشار خطاب شعبوي مخيف في الإعلام؛ لا يرقب في مؤمن إلاّ ولا ذمة.

الخطاب الشعبوي في وسائل الإعلام المختلفة خطاب يخاطب الغرائز عبر التحريض والإلحاح ولا يقدم الخبر والمعلومة والنقاش. المشكلة أنه يجد جمهورا عريضا بسبب حالة الفراغ في خطاب يستخدم لغة الجماهير، ويقترب من احتياجاتها ويبسّط لها المعلومات والأخبار. فالقلة المثقفة تستطيع هضم كثير من الأخبار المجردة ووضعها في سياقاتها السياسية والتاريخية السليمة، وبناء استنتاجات منطقية بعيدة عن نظريات المؤامرة.

أما الخطاب الشعبوي في الإعلام فيقسم العالم والأفراد إلى ثنائية أبيض وأسود، وصديق وعدو. ومن ليس عنده خلفية ثقافية وقراءات خارج التخصص بشكل كافٍ يصعب عليه هضم كثير من المتغيرات التي تموج بها الأخبار يوميا، فيقع دون أن يدري في فخ متابعة الخطاب الإعلامي الشعبوي.

أبرز مثال على عكس هذا الوضع كان خلال السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، عندما بزغت ظاهرة الشيخ محمد متولي الشعراوي والدكتور مصطفى محمود رحمهما الله. كان الأول يبسط المعاني القرآنية لكافة الأعمار بأداء جذاب يفوق حتى الممثلين الموهوبين بشهادة الفنان عمر الشريف رحمه الله، وكان الثاني يبسط الأمور العلمية ويربطها بالمعاني الإيمانية باستخدام لغة بسيطة ومادة بصرية مبهرة. أي كانت هناك نماذج ناجحة للإعلامين الديني والعلمي؛ من متخصصين قررا أن يخاطبا رجل الشارع العادي ويقدما المعلومات النخبوية المعقدة بشكل مبسط وسهل.

الملفت أن التقدم التكنولوجي والانتشار الذي حظيت به وسائل الإعلام بعد ذلك لم يواكبه تطور آخر على مستوى الخطاب؛ ينظّر ويرسّخ لفكرة ردم الهوة بين النخبة والخطاب الثقافي من جهة والخطاب الإعلامي من جهة أخرى. وقد وصلنا إلى ما يشبه الاستقراق للوسائل الإعلامية الحديثة، بتعبير الدكتور طه عبد الرحمن، لكونها وسيلة تقنية حديثة ومتطورة أكثر من كونها مجرد وسيط ناقل للثقافة، فأصبحت مطلوبة لذاتها لمتابعة أية مواد تبثها إذا كانت جذابة أكثر من الانتقاء المنهجي بين الغث والسمين.

رغم تواري المذيع توفيق عكاشة وخطابه عن الساحة الإعلامية منذ سنوات، إلا أن منهجه أصبح منتشرا للأسف في كثير من وسائل الإعلام. وزادت الفجوة اتساعا بين أصحاب العلم والثقافة والخبرة وبين وسائل الإعلام؛ التي إن ظهروا عليها فإنهم يقدمون بضاعتهم بشكل غير جذاب. وتم ترك الجمهور العادي غير المثقف ضحية لخطاب شعبوي يضر أكثر مما ينفع، وينتشر وينخر كالسوس في العقل العربي بسبب الاستثمار السياسي غير الرشيد فيه لتحقيق مصالح ضيقة. والمشكلة الأكبر تتجاوز عملية التجهيل هذه إلى أن طبيعة الخطاب الشعبوي ليس له سقف، ولا يمكن التنبؤ بالمدى الذي سيصل إليه.

لقد كانت سابقة تاريخية أن يُقدم إذاعيون لمحاكمة جرائم الحرب في روندا في التسعينات بسبب دورهم في المذابح العرقية هناك، ومن لم يتعظ بغيره، وعظ الله به غيره.

عربي21

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى