هذا الكتاب.. لايزال جديدا
أحمد عبدالمعطي حجازي
في عشرين سنة لا أكثر استطاع الإسلام أن ينقل الجزيرة العربية مما كانت عليه قبل ظهوره فى السنة العاشرة بعد الستمائة للميلاد إلى ما صارت إليه بعد عشرين سنة من ظهوره.
فى السنة العاشرة بعد الستمائة نزل الوحى على محمد – صلى الله عليه وسلم – فى غار حراء يأمره بأن يقرأ باسم ربه الذى خلق الإنسان وخلق العالم، وبدأ ظهور الإسلام، وفى السنة الثلاثين فتح المسلمون مكة وحطموا الأصنام وآخوا بين الأنصار والمهاجرين، وبين العدنانيين والقحطانيين، وأنشأوا دولتهم التى يستوى فيها القريب والبعيد. اليمن، وعمان، واليمامة، والبحرين، والغساسنة، والمناذرة. اجتمعوا لا بسلطة حاكم ولا بشهوة قاهرة، ولكن بعقيدة تطالبهم بأن يستعدوا لحمل الرسالة ومخاطبة الأمم. وكل هذا فى عقدين اثنين لا أكثر.
واقع كأنه الخيال أو هو أبعد منه، لأنه لم يكن معجزة فوق الطاقة أو فلتة لا تتكرر، وإنما بدا وكأنه قانون أو قاعدة، فالذى صنعه العرب المسلمون فى جزيرتهم صنعوه فى العالم فيما لا يزيد على مائة وخمسين سنة.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم وقد بنى دولة المدينة واطمأن إلى مستقبل الرسالة قد بدأ يعد العدة لدعوة البشر جميعا للإيمان برسالته. ومن ثم رأى أن يكتب لزعماء الدول الذين عاصروه. هرقل أمبراطور الروم، وكسرى ملك فارس، والمقوقس حاكم مصر البيزنطى الذى يسميه الفريد بتلر فى كتابه «فتح العرب لمصر»، جريج، والنجاشى ملك الحبشة. ولم تمض بعد ذلك ثلاث سنوات حتى لقى ربه. ثم لم تمض بعد رحيله عشر سنوات حتى فتح المسلمون العراق كله، والشام كله، وفارس. وأصبحوا قاب قوسين أو أدنى من الهند.
والمعجزات التى حققها العرب المسلمون فى الشرق حققوا مثلها فى الغرب. فخلال هذه السنوات العشر التى فتح فيها العرب المسلمون بلاد الشام والعراق وفارس فتحوا كذلك مصر وواصلوا فتوحهم بعد ذلك فى الغرب حتى وصلوا إلى فرنسا، وفى الشرق حتى حدود الصين.
هذه الفتوح لم تكن مجرد بلاد انتزعوها من أيدى الروم والفرس وغيرهما، ممن كانوا يحكمونها، وإنما كانت حضارة جديدة لم يعرفها العالم من قبل، ولم يستطع تفسيرها، خاصة أنه قد رآها تتحقق على أيدى شعب لم يكن العالم يعرف عنه إلا أنه جماعات معظمها من البدو الرحل لا تعرف الاستقرار، فليس لها بالتالى تراث ثقافى، وليس لها وطن، وليست لها دولة. كيف استطاعت هذه الجماعات أن تحقق هذه الانتصارات العظمى فى هذه السنوات القليلة؟ وكيف استطاعت من لاشىء أن تبنى هذه الحضارة العربية الإسلامية التى ازدهرت فى الوقت الذى كان فيه الأوروبيون يعيشون فى ظلمات العصور الوسطى؟
هذا السؤال لابد أنه خطر للكثيرين. وهو لايزال يخطر لنا ويلح علينا، لأننا تلقينا ما نعرفه عن العرب «الجاهليين» أو الذين سبقوا ظهور الإسلام وتلقوه وآمن به بعضهم وأعلن الحرب عليه آخرون.
كيف استطاعت هذه القبائل وهذه العشائر المتبدية المترحلة المتقاتلة أن تبنى هذه الحضارة العربية الإسلامية، التى ازدهرت فى العالم كله فى أقل من قرنين؟ وكيف تخلت عما بنته وتركته يصاب بالعقم والذبول طوال ألف عام؟
لكن هذا السؤال يرد على نفسه ويحكم بالتناقض على ما يقول. ويفرض علينا أن نراجع فكرتنا عن العرب الذين ظهر الإسلام فى بلادهم فاعتنقوه وحملوه إلى العالم الذى أخذ عن العرب دينهم ولغتهم وجعلها تراثا قوميا ينتمى له ويشارك فى بنائه ويضيف إليه ويتصرف فيه تصرف المالك، ويسابق فى ذلك أصحابه الأوائل فيسبقهم أحيانا ويسبقونه أحيانا أخري.
أريد باختصار أن أقول إن فكرتنا عن العرب الذين سبقوا الإسلام وعاصروه وآمنوا به وبنوا عليه حياتهم فى الجزيرة، ثم حملوه ليفتحوا به العالم ـ فكرتنا عما نسميه «الجاهلية» عمن نسميهم «الجاهليين» ليست دقيقة، وليست صحيحة إلا بمعنى ديني. فالجاهليون جاهليون لأنهم لم يعرفوا الإله الواحد، ولم يكونوا مسلمين. لكن الديانات القديمة التى سبقت الديانات السماوية لم تجعل المصريين القدماء، ولم تجعل البابليين القدماء. ولم تجعل الإغريق والرومان القدماء، ولم تجعل الهنود والصينيين واليابانيين القدماء والمحدثين جاهليين.
ولاشك فى أن الديانات التى عرفها القدماء، خاصة فى الحجاز، لم تخل من بساطة وسذاجة، ولم تقم على بناء ثقافى يفسر الطبيعة والعالم والمجتمع كما كانت تفعل ديانات المصريين والبابليين والإغريق. لكن بساطة الديانة أو سذاجتها ليست دليلا على أن «الجاهليين» كانوا كما تريد هذه الكلمة أن تقول جهلاء، ولا تنفى امتلاكهم الخبرات والمعارف والتجارب التى لا يستطيعون دونها أن يعيشوا. فضلا عن أن العرب الذين يسمون «الجاهليين» لم يكونوا جماعة واحدة، بل كانوا قبائل كثيرة فيها المستقر وفيها المترحل. ولكل جماعة من هذه الجماعات لهجتها وأحيانا لغتها وعاداتها وشروط حياتها العملية، التى تختلف عما لدى غيرها. ولاشك فى أن عرب الجنوب أو القحطانيين كانت لهم حياة تختلف اختلافا واضحا عن عرب الحجاز، فقد عرفوا الزراعة، وبنوا المدن، وشيدوا المعابد، وأقاموا السدود ـ سد مأرب ـ واعتنقوا المسيحية قبل أن يعتنقوا الإسلام، والشواهد والأخبار التى نملكها الآن تدل على علاقات واسعة متشابكة ربطت بين جزيرة العرب وبين البلاد المحيطة بها. سوريا، والعراق، ومصر، والحبشة، وإيران.
ونحن نعرف أن الجزيرة العربية، كانت حلقة وصل بين الشرق والغرب، وأن المسلمين الأوائل هاجروا إلى الحبشة. وأن عمرو بن العاص زار مصر قبل أن يعتنق الإسلام. وأن امرؤ القيس رحل إلى القسطنطينية يستنجد بقيصر الروم يوستينيان ليساعده فى الثأر لأبيه. ومن العرب الذين عاشوا قبل ظهور الإسلام وعاصروا ظهوره من اعتنقوا المسيحية ومن هؤلاء ورقة بن نوفل ابن عم السيدة خديجة زوج الرسول صلى الله عليه وسلم. ومنهم من اعتنقوا اليهودية، ومنهم من اعتنقوا المجوسية كما فعل عدد ممن ينتمون لقبيلة تميم.
ليس غريبا إذن إن يجد الإسلام فى هؤلاء أرواحا وأفئدة وعقولا تحتفى به وتعتنقه وتحمل راياته فى مشارق الأرض ومغاربها.
صحيفة الاهرام