مقالات

إنسانية زائفة!

عبدالله خازر

“أُخُوَّة في الله، والإسلام، والرضاعة..”، هكذا كانوا في خير القرون، التي وصفها بذلك الصادق الأمين، وقال عنها صلوات ربي عليه وسلم: “خيرُ القرونِ قرْني، ثمَّ الَّذين يلونَهم، ثمَّ الَّذين يلونَهم، ثمَّ يأتي قومٌ يشهدونَ ولا يُستشهدونَ، وينذُرونَ ولا يوفونَ، ويظهرُ فيهم السِّمَنُ”.

وفي زماننا الذي تموج به الفتن، وتعصف به من كل حدب وصوب، بما كسبت أيدينا، أصبحنا ننعت زورًا وبهتانًا بـ “أُخُوَّة الإنسانية”، ونحن حقًا أبعد ما نكون عنها، أفسدنا قيمتها بأفعالنا الخبيثة، وجردتها أنفسنا المريضة من أسمى معانيها، التي أرادها المولى عز وجل لنا وللبشرية جمعاء.

فبعد أن كانت تبنى خيوطها وتنسج على أساس قوة الإيمان والتدين، أضحت على أساس المصالح وتداخلها وتضاربها، فكلما زاد تشابكها قوة وارتباطًا كنا أشقاء “صوريين“، وما أن تنقضي يذهب كل منا في حال سبيله، كأن لما تجمعنا أخوة “المنفعة” يومًا ما، وقلما يبادرك بـ “التحية والسلام” عندما تلتقيان وجهًا لوجه، وتراه يميل بوجهه عنك يمينًا تارة، ويسارًا تارة أخرى، كأنه لا يعرفك!

نعم “الأُخُوَّة” تلك، ماذا أصاب أهل هذا الزمان؟، فقد كان أسلافنا أفضل الناس، لأنَّهم عاصروا النبي ﷺ، فهم أفضلهم علمًا بسنته ومقاصد التشريع، وعلى أيديهم نشر الدين، ثم أخذ التابعون العلم منهم، وتابعوا المسيرة، هكذا قرنًا تلو الآخر، إلى أن وصل إلينا الأمر.

يا ليتنا لم نكن من أهله، فقد تباعد بنا، وتباعدنا شيئًا فشيئًا عن هدي السنة ووحي القرآن، وباتت “الدنيا” دستورنا، ومفاتيحها المال، الذي أفسد قيمنا وعلاقاتنا، فشيّدت وفق منظور السفهاء، من يملك قرشًا يسوى قرشًا، ولم تعد لـ” الأُخُوَّة” الدينية قيمة، وتسيّدت العلاقة المادية المشهد برمته.

أصبح جل البشرية، عبدًا للدرهم والدينار، “إلا ما رحم ربي“، وأنا في طليعتكم، ولا أزكي على الله نفسي، الأمارة بالسوء، فقد عالجتها أشد معالجة، “اللهم أني أبرأ إليك من شرورها ” فتعلقت قلوبنا بالمال دون سواه، أفنينا أعمارنا في جمعه، فـ “تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أُعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض“.

هكذا آل المآل، وانتهى بها الحال، فمنها قوم ينذرون ولا يوفون به، يؤتمنون ويخونون، يأمرون بالبر ويعقون، يعاهدون وينقضون، يوعدون ويخلفون، يحدثون ويكذبون، يعطون ولا يحمدون، فأضحت أجسامنا لا تسعها الأبواب من شدة سمنها، لا تتحرك إلا بجرها على عربات، نتماهى عندما يقال فلانًا: “يأكل خروفًا بشحمه ولحمه“، أصبحنا كتل على سررنا، ودليلي ما نشاهده من مشكلات في كبر البطون، وما ينفق عليها من ملايين لشفط دهونها.

واليوم، أفضل استثمار هو بـ (الكروش)، فعندما يتحول الإنسان إلى وحش، وبطنه حاوية لنزعاته، ويتخلى عن “مجاهدة النفس” وكبح غرائزها، يضل الطريق لا محالة، وتكون الدنيا وإرهاصاتها همه أولًا وأخيرًا، و”لو كان هذا، في غير هذا، لكان خيرًا لنا“.

ذلك، يقودني إلى سؤال أعياني، ألا وهو، لماذا وصلنا إلى هذا الحد من الجحود والإنكار؟، ألم نكن بالأمس نضرب الأمثال، ونقول: “أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب”، أين هي الأُخُوَّة بمفهومها الشامل؟، في خير القرون كان رضوان الله عليهم يتلمسون حاجات الناس، ويتسابقون ويتهافتون على قضائها، ويحمدون المولى عز وجل الذي خصهم دون سواهم بذلك، وفي عصرنا المتخلف لا يكترث أحدنا بحاجة أخيه، ولا يسأل عنه أساسًا، و(يااااااا) ذل السؤال والمسألة إن سأل!

ماذا دهانا؟، والجواب على ذلك قطعًا من السنة والقرآن بلا منازع، فبهجرتهما، ابتعدنا عن “الحق” رويدًا رويدًا، والسر فيما رضعناه من حليب، لا نعلم مصدره!، فأصبحنا أشقاء في الرضعة الواحدة، قاسمنا المشترك المصاصة أو ما تسمى بـ “اللهاية” والقارورة “القنينة“، وبفضلهما فقد الارتباط النفسي والعاطفي بين الأم وطفلها، وبين الأخ وأخيه، وبين المرء وبنيه.

و”لإن الرضاع يغير الطباع“، كما يقول العلماء رحمة الله عليهم، فقد جاء الإسلام آمرًا بذلك، وحاثًا عليه، فـ “الرضاع في حق الصغير كالنفقة في حق الكبير“، وقرآننا الكريم يزخر بالآيات الدالة على ذلك، منها على سبيل المثال لا الحصر }والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين{، كذلك السنة النبوية “لا رضاع إلا ما فتق الأمعاء“، وهي أيضًا مليئة بالأحاديث الدالة على أهميتها ودورها في بناء مفهوم الأُخُوَّة، وتوطيد أواصرها، “انظرن من إخوانكن، فإنما الرضاعة من المجاعة“.

ولخطورة الموضوع، حرص العرب قديمًا، حتى في جاهليتهم الغابرة، على حسن اختيار المرضعة، اعتناءً بأخلاق مواليدهم، كي يتعلموا الشرف والشجاعة ومكارمها، فماذا حصد بعضنا من “اللهايات“؟

خلاصة الأمر، الرضاعة الطبيعية حق ثابت للطفل، ما دام بحاجة إليها، وقد أثبت الطب حديثًا مكانتها، بينما أمر ديننا الحنيف بها قبل 14 قرنًا، فلبن الأم معقم ليس به مكروبات، ركب ليفي بحاجات الطفل منذ ولادته حتى الفطام، ومن خلاله ينمو بشكل أسرع وأكمل من أولئك الذين يرضعون القارورة، والأهم من ذلك كله يقوي ارتباط الأم بطفلها، مصداقًا لقوله تعالى: }وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم{، فلا تحرموا أطفالك من ذلك الرباط، الذي فقده الكثيرون هذه الأيام.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى