مقالات

يغلقون حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي طلبا للراحة والخصوصية

-اخلاص القاضي- تشير تقديرات عالمية الى أن أكثر من نصف سكان العالم يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي، بواقع 10 مليارات ساعة، وهذا يعادل نحو 1.2 مليون سنة من عمر الوجود البشري، وعلى النقيض، يعمد أشخاص إلى إغلاق حساباتهم عبر تلك المنصات التي “سببت لهم الكثير من المشكلات النفسية والمعنوية الاجتماعية والمادية، عدا عن دورها السلبي في إضاعة الوقت بلا أي جدوى تذكر، والتجارب القاسية، من ضمنها التنمر والابتزاز والنصب والاحتيال، وغير ذلك من مسببات القلق والاضطراب”، على ما يذكر نشطاء لوكالة الأنباء الأردنية (بترا).
وفيما تشدد الأربعينية سوسن، ربة بيت، على استمرار إغلاقها لحساباتها الرقمية، تؤكد رند غرايبة، التي تعمل في حقل الاعلام، صعوبة التخلي عن “السوشيال ميديا”، فهي تستفيد منها في عملها بغية “البحث والتحري والاستقصاء والتعرف على الضيوف، ونشر المواد الإعلامية”، بينما قد تستغني المهندسة وداد قطيشات عنها بأي وقت، مؤكدة “قدرة الانسان على التأقلم والتعايش مع كل الظروف”، أما خالد خريسات، فيميل إلى كونها من أساسيات الحياة، “مع كثير من الوعي والتمييز والالتزام بالمعايير الأخلاقية والعادات والتقاليد”.
مراقبون لا يرون أي مشكلة في قرار بعضهم إغلاق حساباتهم الرقمية، “طالما أن في ذلك راحة لهم، وفائدة لحياتهم، وصونا لخصوصياتهم”، مؤكدين أن للإدمان الرقمي الكثير من التداعيات السلبية، منها: ضعف مهارات التواصل الحقيقية والمباشرة، وتراجع القدرة على التعبير، فضلا عن الانعزال، والأرق والكسل وانتهاك الحياة الخاصة للأفراد، واضطرابات النوم وتعكير صفو المزاج، وقلة الثقة بالنفس بسبب المقارنة غير العادلة مع الآخرين أو المشاهير أو المؤثرين.
فيما يعتقد آخرون أن إغلاق الحسابات الرقمية في هذا الوقت، يعد نوعا من “الانتحار الرقمي” أو “الانعزال الرقمي”، وفقا لتعبيري المستشار والمدرب في استراتيجيات التواصل الاجتماعي خالد الاحمد، الذي يقول: هنالك قاعدة في العالم الرقمي اسمها ( 1 /9 / 90)، وتفسيرها، أن 1 بالمائة فقط هم صناع المحتوى الرقمي، 9 بالمائة، هم الذين يشاركون ويتفاعلون معه، و 90 بالمائة، هم من المتلقين له، مفسرا: أن نسبة النشطاء 10 بالمائة، والباقي من القراء.
ويعلل: المتلقي، يجب أن يدرك ما هو هدفه من استخدام “السوشيال ميديا”، وما هي مصادره للمعرفة، وأن يكون على دراية بكل ما يبحث عنه، وبالتالي، تحديد المحتوى الذي يلزمه بحياته، وإلغاء كل ما لا يفيده، وقتها يحدد الناشط ماذا يريد بالضبط.
ويستدرك الاحمد: عمليا، قلة هم من يصنفون بالوعي الرقمي، لذلك يصابون بما يمكن تسميته بـ”الوباء المعرفي”، أي أن لديهم الكثير من المعلومات والاهتمامات المختلفة، والخوارزمية، كما يوضح، هي من تقودهم وتشوش أفكارهم وتوجهاتهم، فيفقدون السيطرة على محتويات البحث، وتضيع أوقاتهم عبثا، ما قد يؤثر عليهم نفسيا، وقد يدخلون في طور تصديق كل ما يبث عبر “السوشيال ميديا” حتى الأخبار المفبركة والمزيفة منها، فيقعون فريسة للجهل والاشاعة، ويقررون على إثر ذلك، الابتعاد، أو الإغلاق المؤقت أو الدائم. ويبين: أن من قرروا “الانتحار أو الانعزال الرقمي”، أي إغلاق حساباتهم للأبد، هم من تأكدوا من غياب الهدف لوجودهم بالعالم الرقمي، وهم عرضة أصلا للجانب السلبي منه، فوقتها تركه أفضل لهم، وهو خير من إضاعة الوقت، واصفا من يغادرون العالم الرقمي بـ”الشجعان”، لأنهم انسحبوا بالوقت الصحيح، من مكان ليس صحيحا بالنسبة لهم، ولا يخدم أهدافهم أو عملهم أو طموحهم.
أستاذ الإعلام في جامعة اليرموك الدكتور خلف الطاهات يقول من جانبه: تشير تقارير إعلامية وبحوث على مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي، إلى ميل بعضهم للعزوف عنها لأسباب كثيرة منها، انتهاك الخصوصية، مبينا أنه وبسبب غياب ثقافة استخدام تلك المنصات محليا وعربيا، هناك سلوكان حولها، الأول: وهو سلوك الرقابة والمتابعة عن بعد لما ينشر دون إبداء الاهتمام بالتفاعل أو التعليق، حيث تأثر أصحاب هذا السلوك بالمضامين السائدة اليوم بنشر الأمور السلبية، الأمر الذي شكل حالة نفسية وتراكم البؤس والعدمية لدى بعض المتابعين الصامتين، ففضلوا خيار الانسحاب من هذه المنصات التي تعج بالبضاعة المستهلكة غير الجادة والمغلفة بالاستعراض والنفاق وعدم الدقة. أما السلوك الثاني، كما يواصل، هو المتفاعل عبر ما ينشر على هذه المنصات، إذ أن الأشخاص الذين قرروا ذلك، ولضمان استمرارهم ولتلبية رغبات متابعيهم، قد يضطروا لمجاراة أصوات لا تقدم إلا السلبية والعدمية والمواقف الموغلة في النقد والتجريح، وتقدم قصصا وحكايات دون أدلة أو توثيق، والهدف، تسجيل المواقف أمام جمهور افتراضي لكسب “اللايكات”، ولو كان ذلك على حساب الحقيقة.
ويشير الطاهات إلى أن هؤلاء يصابون بعد فترة بنوبات “إحباط الكترونية” لأنهم يبالغون في تشويه الواقع وتزييف الحقائق، فيبتعد عنهم الكثير من المتابعين، وتنكشف اوراقهم، وربما يلجأون لإغلاق حساباتهم، جراء ذلك. ويؤكد في هذا السياق، أن حجم السلبية التي تظهر اليوم على تلك المنصات، وإغراقها بمحتويات سطحية وعدمية ومكررة، وعدم صدقية أغلب من يخاطبون الناس، وخاصة أولئك من أدعياء الحقيقة المطلقة الذين يقدمون أنفسهم على انهم أوصياء على الفكر والمواقف، وغير ذلك من أسباب، تقود بعضهم للعزوف عن الاستمرار في بعض المنصات الاجتماعية، او تتجه لأخرى جديدة أكثر جدية واكثر احتراما للعقل.
المستشار في علم النفس الطبي والإرشاد التربوي الدكتور نايف الطعاني، يقول: أعرف أن هنالك بعض الناشطين يغيبون عن “السوشيال ميديا”، ثم يعودون اليها، حيث لا يستمرون في فتح صفحاتهم الرقمية، وصولا لإغلاقها تماما، وهذا مُبرّر في علم النفس، على حد تعبيره.
ويعلل: أي شيء جديد يقدم عليه الناس في بدايته بحماس، لكنه يفتر مع الوقت، فالعالم الرقمي افتراضي، ولا يحل أي مشكلة، اذا لم يُحسن استخدامه، بل يزيد من الأعباء النفسية، ومجاملات “منور، وتسلم” وقد يوارب هذا الشخص المجامل وجهه عمن “يكيل” له المجاملات على صفحته الافتراضية، اذا رآه على أرض الواقع، و”هذا حقيقة يسبب انفصاما في الشخصية وازدواجية في معايير التعامل”، على حد تحليله. ويواصل الطعاني: هنالك أناس اكتشفوا ان “السوشيال ميديا” ليست مهمة بالنسبة لهم، وانها مضيعة للوقت، تأخذك الى صفحات وصفحات، والناتج هو صفر، فيقرروا إغلاقها، “وهذا قرار سليم”، بسبب أثر تلك المنصات على تشتيت الأفكار والانتباه، والتي تعد من أعراض الانفصام، وبالتالي تغيب القدرة على ربط القضايا وتسلسلها، وهذا يؤدي ايضا، كما يتابع، الى تشابك الموضوعات، والقفز من موضوع لآخر، فنعتاد على الفوضى وعدم سماع الآخرين، بل ومقاطعتهم إذا أرادوا الحديث، لأن الشخص يكون قد فاض بالمعلومات الكثيرة والمشوشة، فيريد أن يتحدث بأي شيء، وفي أي وقت، دون فائدة، فقط هو يريد استعراض قدراته المعرفية المستجدة، والنتيجة، لا فائدة من حديثه، سوى التشويش، واعادة “تسميع” ما نراه جميعا على هذه المنصات.
ويضيف: ما تقدم يدخلنا في دائرة من فراغ لا ينتهي، تسمى وفقا لإحدى مدارس علم النفس ب”الجيشطالت”، كناية عن الأعمال غير المنتهية، بسبب عدم القدرة على إكمال اي موضوع إلى نهاياته، والبدء بموضوع آخر، وعدم اكماله، وهكذا دواليك، مشيرا إلى أن هذا ما يحدث بالضبط على مواقع التواصل، فراغ ثم فراغ، وكثير من الكلام الذي لا يؤدي إلى نتائج ترضي الناس، فيشعرون بالإحباط، ويغلقون حساباتهم، طلبا للراحة النفسية.
مستشار التخدير ومعالجة الألم الدكتور منير شواقفة يقول: الإدمان على وسائل التواصل الاجتماعي هو عبارة عن إدمان سلوكي والذي يعرّف على انه الانشغال الزائد بها، والمدفوع برغبة غير قابلة للسيطرة، وتخصيص وقت وجهد، بحيث تتأثر جوانب الحياة الأخرى بشكل محسوس، لافتا إلى أن إدمان وسائل التواصل يشبه في الكثير من الوجوه، الادمان الناتج عن استعمال المواد المخدرة، وهذا يتضمن التأثير على الأمزجة والأعراض الانسحابية له، والمشكلات الشخصية والعائلية والانتكاس بعد الانقطاع لفترة. ويسرد: تم ربط هذا الإدمان بأنشطة إدمان أخرى كالقمار والمواد المخدرة المثيرة لإفراز مادة “الدوبامين” والتي تنتج نفس التدوير العصبي، وهذا ما دعا اليه أحد علماء الاعصاب لمقارنة التفاعل عبر وسائل التواصل الاجتماعي بحقنة من تلك المادة داخل النظام العصبي مباشرة.
ويقدم الدكتور شواقفة طيفا من الحلول لمن يعاني من أمراض الادمان على مواقع التواصل الاجتماعي، ومن ذلك: تقنين ساعات استخدامها، وعدم اعتبارها الجزء الاساس من الحياة، والاعتماد عليها فقط إذا كانت فعليا مهمة للحياة العملية، مشددا على إمكانية الشفاء من إدمان وسائل التواصل بالتعاون مع جهة متخصصة، وصولا إلى إغلاقها، اذا كان في هذا الحل النهائي راحة لصاحب القرار، وبكامل حريته الشخصية.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى