التحول الإلكتروني للضمان الاجتماعي: كل ما هو غير تقليدي
د. حـازم رحـاحله
مدير عام المؤسسة العامة للضمان الاجتماعي
للوهلة الأولى، بدت عملية أتمتة ورقمنة خدمات الضمان الاجتماعي بكافة تفصيلاتها وتعقيداتها مسألة غاية في الصعوبة. فالمنافع التأمينية للمؤسسة متنوعة وشروط كل منها متباينة وتعتمد على مجموعة من المعطيات، وكذلك الحال بالنسبة للاشتراكات التي تتباين بين القطاع الخاص والعام وبين العسكري والمدني وبين منشأة وأخرى، وربما ازدادت تعقيداً مع الأنظمة التأمينية المستحدثة التي تحاكي خصوصية وقدرات شريحة من القوى العاملة لا سيما العاملين في المهن الحرة.
كل ذلك لم يثني المؤسسة عن وضع رؤية واثقة للانتقال بجميع هذه الخدمات إلى الفضاء الإلكتروني الذي يوّفر لجمهور المؤسسة من منشآت وأفراد خدمات سهلة وميسرة تمكنهم من الوصول إليها أينما كانوا وفي أي وقت أرادوا.
المُنطلقات..
انطلقت المؤسسة في مشروعها للتحول الإلكتروني من إعادة نظر شاملة لمنظومة إجراءاتها، إعادة النظر بشروط وإجراءات لطالما تم التعامل معها على أنها مسلمات “بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون”.
مجموعة من الوثائق والمعززات كانت ترتبط بكل خدمة أو معاملة، فركزنا على المعلومة لا الوثيقة وفكرنا بكيفية الحصول عليها من مصدرها مستفيدين بذلك من البُنى التحتية ومنظومة الربط الإلكتروني مع مختلف الدوائر والجهات.
تَطَلّب الأمر منا، إعادة النظر بداية بالأنظمة الإلكترونية الداخلية التي تعتبر أساساً للانطلاق نحو الخدمات الإلكترونية، والسير قدماً بمشروع الأرشفة الإلكترونية لوثائق تمتد لأكثر من أربعة عقود، المشروع الذي لم يكتب له النجاح في عدة محاولات سابقة، تمكنا فعلاً من استكماله وبالتعاون مع القوات المسلحة الأردنية وكوادر الأجهزة الأمنية.
جائحة كورونا شكلت دفعة قوية لمشروع التحول الإلكتروني
جائحة كورونا كانت التحدي الذي تمخض عنه فرصة وحاجة للتسريع بمشروع التحول الإلكتروني، ولحسن الطالع فقد كانت المؤسسة قد أطلقت المشروع قبيل نحو عام من بداية الجائحة. فكانت البنية التحتية الإلكترونية على درجة عالية من الجاهزية، والخطط التشغيلية ومسارات التحول الإلكتروني كانت معدة وجانب منها قيد التنفيذ.
تدخلات المؤسسة الواسعة للتعامل مع تداعيات الجائحة وحزم البرامج والتدخلات المتتابعة والواسعة تطلبت منا أيضاً استحداث مسارات جديدة للتحول الإلكتروني، فتنفيذ هذه البرامج لم يكن ممكناً وفقاً للأُطر التقليدية وكان من الممكن أن يكتب لهذه البرامج فشل التنفيذ لو لم نتحرك سريعاً.
أكثر من مليوني معاملة تم استقبالها عبر منظومة الخدمات الإلكترونية وإنجازها من خلال الفرع الرقمي الذي تم استحداثه لتجاوز المحددات اللوجستية التي فرضتها الجائحة. واليوم أصبح هذه الفرع ضمن الهيكل التنظيمي للمؤسسة وأصبح الجهة المركزية التي تعالج كافة المعاملات المقدمة من خلال واجهات الخدمات الإلكترونية بإجراءات موحدة وبحد أدنى من التدخل البشري.
خدمة آيبانك
لقد تطلّب تطبيق مفهوم الخدمات الإلكترونية المتكاملة التفكير بأدوات جديدة تضمن تطبيق آمن لأي خدمة يتم توفيرها من خلال بوابات الخدمات الإلكترونية خصوصاً إذا كان يترتب عليها منفعة مالية. فتحويل المستحقات المالية المرتبطة بتأمينات وبرامج المؤسسة يستوجب التأكد من وصولها إلى الشخص المستحق لها، ومن هنا جاءت فكرة خدمة آيبانك. فهذه الخدمة تضمن للمؤسسة الحصول على أرقام الحسابات البنكية للمستفيدين بشكل إلكتروني وآني وموثق بأرقامهم الوطنية أو الأرقام الشخصية لغير الأردنيين، فليس هناك أي هامش لتحويل أي مستحقات مالية لغير مستحقيها، ولم تعد الإشكاليات المرتبطة بالإدخالات اليدوية قائمة على الإطلاق.
فمن هنا جاءت الشراكة مع الجهاز المصرفي وبتنسيق مع البنك المركزي للربط الإلكتروني البيني الذي يعد عصباً لهذه الخدمة. اليوم جميع البنوك العاملة في المملكة مشاركة في الخدمة، ومنذ انطلاقها في نهاية العام 2020، بلغ عدد أرقام الحسابات البنكية الموثقة التي وصلت إلى قواعد بيانات المؤسسة نحو (600) ألف حساب، وهي الخدمة الأولى من نوعها في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
إطلاق هذه الخدمة ترافق أيضاً مع تطوير المؤسسة لمنظومة متكاملة للتحويلات النقدية المباشرة للحسابات البنكية في مختلف البنوك العاملة في المملكة.
خدمة مدفوعات الضمان DamanPay
الضمان الاجتماعي لطالما كان يعتمد في تحصيل مختلف مستحقاته المالية من الأفراد والمنشآت، على خدمات وقنوات الدفع الإلكترونية لعدد من الشركات الخاصة التي أثبتت فاعليتها وقدرتها على استيعاب التدفقات النقدية الكبيرة التي ترد إلى حسابات المؤسسة وعلى مدار الساعة. إلا أن المؤسسة وفي إطار سياساتها لتنويع قنوات المدفوعات الإلكترونية والحد من المخاطر المرتبطة بتركز انسياب الإيرادات في قنوات دفع محددة، ورغبة منها في توفير خدمات المدفوعات الإلكترونية مجانية بالكامل، فقد عملت المؤسسة على مدار الأشهر الستة الماضية على استحداث خدمة جديدة ومجانية للمدفوعات الإلكترونية تُدار بشكل كامل من قبلها وبالشراكة مع البنوك المحلية.
اليوم خمسة بنوك تحظى بحصة كبيرة من المتعاملين انضمت لهذه الخدمة وعدد آخر من البنوك سينضم إلى الخدمة خلال الأسابيع القادمة. كما ستشهد الأيام والأسابيع القادمة انضمام شركـات صرافة محلية منتشرة على نطاق واسع في مختلف محافظات المملكة وأيضاً في دول الخليج العربي وعدد من المدن الأوروبية، وهو ما سيتيح خيارات وأنماط جديدة لتوريد مستحقات الضمان الاجتماعي، لا سيما للمشتركين اختيارياً الذين يتواجد جانب كبير منهم في الخليج العربي وتمكينهم من دفع اشتراكاتهم دون أدنى عناء.
التبليغ والعلاج الفوري لإصابات العمل
تاريخياً كانت المؤسسة تتعامل مع المعالجات المرتبطة بإصابات العمل على أساس تعويض المنشآت والمصابين عن التكاليف التي تحمّلوها. إلا أن هذا النهج اكتنفه العديد من التحديات والصعوبات، أهمها عدم توفر قدرة العديد من المنشآت على تحمل كلفة المعالجة الطبية للمصاب ومن ثم مطالبة المؤسسة بها. لذلك شرعت المؤسسة في عام 2019 باستحداث منظومة جديدة للمعالجات الطبية لإصابات العمل، بحيث تم إبرام تعاقدات مباشرة مع الخدمات الطبية الملكية وغالبية المستشفيات الخاصة في المملكة، بحيث تتولى المؤسسة تحمل نفقات المعالجة الطبية بشكل مباشر دون تحميل المنشآت والعاملين أي كلف مالية.
تنفيذ النهج الجديد تطلّب تطوير نافذة إلكترونية تتيح لضباط ارتباط المنشآت التبليغ عن إصابات العمل فور وقوعها. ومن خلال الربط الإلكتروني مع الجهات الطبية المعتمدة تصدر الموافقات العلاجية بشكل آلي دون تدخل بشري، وهذه الخدمة تم تطويرها بشكل ذاتي من قبل كوادر المؤسسة.
كما تم توسيع نطاق هذه المنظومـة مع بدء المؤسسـة بتقديم خدمات الإسعاف الجوي لمصابي العمل ممن تستدعي حالتهم نقلهم جـواً، حيث أصبحت هذه الخدمة مرتبطـة إلكترونياً مع مركز الإسعاف الجوي ومركز الاتصال والسيطرة في مديرية الأمن العام.
برنامج رعاية للحضانات
بعد إقرار القانون المعدل لقانون الضمان الاجتماعي واستحداث المؤسسة لمنفعة جديدة مرتبطة بتأمين الأمومة المتمثلة في دعم كلف رعاية الأم العاملة لطفلها بعد إجازة الأمومة، قامت المؤسسة بتطوير خدمة إلكترونية جديدة تتيح للأم العاملة مراجعة أي من الحضانات المعتمدة لدى المؤسسة والحصول على الدعم المقرر دون الحاجة لمراجعة أي من فروع المؤسسة.
فكيف نجحنا؟
بكل تأكيد، فقد كانت تجربة التحول الإلكتروني تجربة صعبة، ليس من الناحية الفنية التي ربما كانت المسألة الأسهل بفضل الكوادر الكفؤة التي تتميز بها المؤسسة، وإنما في كيفية إعادة النظر بالعديد من المسلمات التي كان يخشى الاقتراب منها. لذا فإن مكمن الحل الرئيس عند إجراء أي اصلاح لمنظومة الإجراءات المعمول بها في أي مؤسسة حكومية هو البحث بدايةً في المسلمات.
لقد وصلنا إلى قناعة بأن لا شيء مستحيل في ظل النهضة الإلكترونية الكبيرة التي يشهدها العالم، وعلينا دوماً البناء على الأدوات والممكنات الإلكترونية التي يتم استحداثها. لا شيء صعب إذا ما أحسنا البناء على القدرات الذاتية لكوادرنا التي ما زال في جعبتها الكثير ووفرنا لها البيئة المحفزة بمختلف أبعادها. وحتى في مجال الشراكات الخارجية، فبلدنا يتمتع بميزة نسبية تتمثل بوجود شركات ومؤسسات تكنولوجية قادرة على الإبداع دوماً، وقد نجحت المؤسسة في اختيار شراكتها مع أحد المؤسسات الرائدة في مجال الخدمات الإلكترونية لتطوير الواجهات التطبيقية لخدماتها في حين تولى كادر المؤسسة المتميز إعـادة هيكلة غالبية الأنظمة الإلكترونية الداخلية التي تعد عصباً رئيساً لخدماتها الإلكترونية. كما تلقت ولا زالت تتلقى المؤسسة الدعم والمساندة من وزارة الاقتصاد الرقمي التي عملت جاهدة على تذليل أي عقبات تواجه المؤسسة في مشروعها للتحول الإلكتروني.
اليوم، بإمكاننا الإدعاء بأن الخدمات الإلكترونية والمنظومة الرقمية للضمان الاجتماعي هي الأفضل على مستوى المملكة وفي القطاعين العام والخاص على حد سواء وخدماتنا أصبحت إلكترونية بالكامل، وستشهد الأسابيع القادمة استحداث أدوات وخدمات جديدة هي الأولى من نوعها في المملكة.