كازاخستان: السباحة مع أسماك القرش … سياسة خارجية في حقل ألغام (1-2)
22 الاعلامي – كتب: عريب الرنتاوي، مدير عام مركز القدس للدراسات السياسية
على تخوم أكبر وأخطر الصراعات الدولية المحتدمة حالياً، تقع كازخستان، بقوس حدودي نصف دائري تقريباً، يبدأ من الغرب وينتهي في الشرق ويأخذ شمالي البلاد كلها، وبطول سبعة آلاف كيلومتر تقريباً، وبحدود مع الجارة الكبرى، الصين (شرق- جنوب) تزيد عن الألف وخمسمائة كيلومتر، ولديها أكبر ساحل على قزوين، البحر الداخلي الذي تتشاطئ فيه مع كل من إيران وروسيا وقرغيزيا وأذربيجان، فيما تحتل الشطر الجنوبي من حدودها كل من قرغيزيا وأوزبكستان وتركمانستان.
هنا يجد هذا البلد الشاسع بمساحته المترامية على 2.7 مليون كيلومتر مربع (التاسع عالمياً، والأول بوصفه بلداً داخلياً-حبيساً، أكبر من مساحة أوروبا الغربية مجتمعة)، والمتواضع في عدد سكانه (أقل من 20 مليون نسمة)، يجد نفسه، على الخطوط الأولى للصراع الأمريكي – الغربي مع الصين، وقي قلب معترك الحرب الكونية في أوكرانيا وحولها، التي وضعت لأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، الغرب بمجمله، في مواجهةٍ مع الدولة الوريثة للاتحاد السوفياتي، وليس بعيداً عن إيران بملفاتها الشائكة الكبرى، ومن ضمنها، وليس أخطرها بالضرورة، صراعها مع أذربيجان، الدولة الشريكة لطهران في المذهب والخصم اللدود بحسابات الأمن والسياسة والمصالح والتحالفات.
وفضلاً عمّا سبق، فإن كازاخستان، “قلب آسيا الوسطى النابض”، الدولة الأوراسية بامتياز، تُعدُّ دولةً جارة للقارة العجوز، من بوابتها الشرقية، مَثَلها في ذلك مَثَل روسيا، وبالأخص تركيا، فأجزاء من غربها، تنتمي جغرافياً لشرق أوروبا، على ضفاف الأورال، الحدود المائية بين أوروبا وآسيا، الأمر الذي أكسبها ميزة جيوسياسية بالغة الأهمية من منظور غربي، وهي مكانة تتعزز كلما اتسعت الفجوة بين الشرق والغرب، وتصبح أكثر خطورة، كما هو الحال في أيامنا هذه، ويفسر ذلك (من بين عوامل أخرى) سرّ الاهتمام الأوروبي الكثيف بهذه البلاد، فالاتحاد الأوروبي هو المستثمر الأكبر في هذه البلاد، وبنسبة لا تقل عن 40 بالمئة من إجمالية الاستثمارات الأجنبية المباشرة خلال ربع القرن الأخير.
هي جغرافيا -سياسة محمّلة بالتحديات والتهديدات، فيما تجهد البلاد في تحويلها إلى فرص ما أمكن، أو على الأقل، منع انفجارها وتدحرجها ككرة نار تأكل الأخضر واليابس، فيما البلاد التي تختزن بباطنها أهم الثروات الطبيعية من نفط وغاز ويورانيوم، تعد محط أنظار “اقرأ أطماع” قوى دولية وإقليمية متنافسة، ولقد لفتني فيما كنت في زيارة لأستانا، هي الأولى لي، بدعوة كريمة من سلطاتها، سؤال أحدهم: هل تعرف “الجدول الدوري في الكيمياء”، قلت نعم، فأجاب: كافة العناصر المدرجة في هذا الجدول، متوفرة بكميات معقولة وإن متفاوتة في باطن “أرض القازاق”.
في بيئة جيو-سياسية من هذا النوع، يصبح الخطأ في السياسة الخارجية، كخطأ خبير المتفجرات: “الخطأ الأول هو الخطأ الأخير”، وهو ما اتضح في إجابات نائب وزير الخارجية الكازاخية، الذي قبل بوصفي لدبلوماسية بلاده، بأنها “دبلوماسية في حقل ألغام” … الحذر والتروي، التوازن والاتزان، والسير في الحبال المشدودة، هو أكثر ما يميز السياسة الخارجية لأستانا.
من ناحية أولى، ومنذ الاستقلال (آخر بلد خرج من الاتحاد السوفياتي)، تحرص البلاد على إقامة أفضل العلاقات مع روسيا الاتحادية، وهي تواكب عن كثب، التحولات في البلد الوارث لتركة الاتحاد السوفيات القديم، بل وعادة ما تصف هذه العلاقات بأنها استراتيجية، وهي عضو في منظومة الأمن الجماعي للبلدان المستقلة عن الاتحاد السوفياتي بقيادة موسكو، بيد أن كازاخستان، لا تنام على حرير أوهام “البوتينية”، وفي الحوار خلف الأبواب المغلقة، تجد قدراً كبيراً من التحسب، بل قُل القلق، من نزعة روسية لاستعادة إرث إمبراطوريات سابقة، قيصرية وشيوعية، ولدى موسكو في كازاخستان، ما يغري للنظر إليها كحديقة خلفية لمجالها الحيوي، سيما وأن أكثر من 15 بالمئة من سكان البلاد، من أصول روسية، كان ستالين قد نقلهم بصورة قسرية للعمل في الزراعة في شمالي البلاد، لسدّ احتياجات بلاده ابتداءً، وتأمين قدر من الأمن الغذائي لثاني أعظم دولة زمن الحرب الباردة وصراع القطبين لاحقاً.
لكن أستانا، الاسم التاريخي للبلدة التي ستصبح عاصمة آسيا الوسطى، ستحمل لسنوات طويلة اسم أول رئيس في مرحلة ما بعد الاستقلال، نور سلطان نزارباييف، الرجل الذي تولى رئاسة البلاد منذ ان كانت “جمهورية كازاخستان الاشتراكية السوفياتية” لسنوات سبع في ظلال “الاتحاد السوفياتي، والذي عمل عن قرب مع كل من مخيائيل غورباتشوف وبوريس يلتسين، “المهندس” الذي يكاد يكون أشرف على كل تفصيل في مشروع بناء عاصمة أوروبية الطراز، جميلة، حديثة، منظمة ونظيفة، وترك بصماته الشخصية على كل معلم استراتيجي في المدينة، وما زال مطارها الدولي، يحمل اسمه حتى يومنا هذا.
أستانا هذه، لن تدير ظهرها لموسكو، بيد أنها لن تضع جميع أوراقها في سلتها، فكلفة الالتحاق بروسيا – بوتين، لا تقل عن كلفة مناصبتها العداء، فهي تقيم علاقات متوازنة مع الجار الصيني العملاق، وتنظر للتنين الآسيوي، بوصفه أحد عناصر معادلة التوازن مع روسيا، بل وقد تكون للعلاقة الجيّدة معه المبنية على معادلة الاستثمار والمصالح المشتركة، ضمانة لإبقاء أية نزعة توسعية روسية في شمالها، مجرد أضغاث أحلام.
وعلى المقلب الآخر، تجد كازاخستان نفسها “جسراً للعبور” بين آسيا وأوروبا، وهي التجسيد الأكثر حيوية للأوراسية بأبعادها الجيو-سياسية والجيو-اقتصادية والجيو-ثقافية، وتحتفظ البلاد بعلاقات متشعبة مع القارة العجوز، التي تستحوذ بدورها بأكبر حصة من الاستثمارات فيها، وتتغذى من نفطها، الذي يشكل 8 بالمائة من استهلاكها للطاقة الكربونية، وكازاخستان عضو في منظمة الأمن والتعاون، والعلاقة الطيبة مع أوروبا، تلعب دوراً محورياً، في حفظ التوازن والاتزان في السياسة الخارجية للبلاد، رغم ما يشبوها من مدّ وجزر، تارة على خلفية “حقوق الانسان” وأخرى بدافع الرغبة في جر البلاد مسافة أبعد عن روسيا وأقرب لبروكسيل.
وكازاخستان، عضو فاعل في منظمة الدول الناطقة بالتركية، التي نشطت بشكل خاص، مع صعود العدالة والتنمية ورجب طيب أردوغان، إلى السلطة قبل عقدين من الزمان، أو أزيد قليلاً، لكن هذه البلاد، وعملاً بسياسة خارجية خاصة بها، ستعمل على “تطوير الحرف التركي إلى لاتيني”، وربما اعتباراً من العام المقبل، بعد أن تستكمل حل بعض مشكلات “القواعد والصرف والنحو”، إنها خطوة على طريق “العولمة” والاندماج في النظام العالمي، تبقي للبلاد جذورها التركية المميزة لغالبية سكانها، لكنها تضعها على سكة الانفتاح على العالم … إنه قرار مشبّع بالدلالات السياسية إلى جانب ما يستبطنه من أهداف اقتصادية وعملية ولوجستية.
قلنا إن كازاخستان، نجحت في تحويل “تحديات الجيوبوليتكس” إلى فرص، ومن أجل ذلك فتحت البلاد أبوابها لجذب الاستثمارات، ومن على قاعدة جعل استقرار البلاد، مصلحة لكل القوى الدولية الفاعلة، ومن له مصالح يخشى عليها في أي بلد في العالم، يحرص على استقراره، وخلال أقل من ربع قرن، جذبت أستانا أكثر من 400 مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية المباشرة، معظمها من دول أوروبية، تليها الصين بالطبع.
وتخطط كازاخستان، لإقامة “بنية تحتية أوراسية” للنقل الواصل بين قلب آسيا وأوروبا، عبر مشروع “الخط المتوسط” أو “عابر قزوين”، وهو مشروع نقل عملاق، طموح واستراتيجي، يتكامل مع “مبادرة الطريق والحزام” الصينية، ويتنافس مع مشاريع الطرق الاستراتيجية التي تخطط إيران لبنائها مع الباكستان والصين، بكلفة عشرين مليار دولار، وبرهانات كبيرة على عوائد مالية ضخمة، فضلاً عن تعزيز مكانة البلاد بوصفها حلقة استراتيجية في منظومة النقل والتجارة الدولية.
بالنسبة لزائر مثلي، يطأ أرض كازاخستان وآسيا الوسطى لأول مرة، للمشاركة في أحد أهم المنتديات الدولية (منتدى أستانا الدولي) الوريث لمنتدى أستانا الاقتصادي (دافوس آسيا الوسطى)، من الطبيعي أن ينصب اهتمامه على تفحص تعامل البلاد من قضايا النزاعات الدولية في عالم مستقطب بفعل أوكرانيا وتايوان والسعي الحثيث لتقرير وجهة ومستقل “النظام العالمي”، وفي ظلال أخطر أزمة عالمية منذ الحرب العالمية الثانية.
أصدقكم القول، أنني وأنا المنشغل بتتبع أثر الجغرافيا السياسية على أمن الأردن واستقراره، ودورها في تشكيل سياساتها الخارجية، شعرت وأنا أنظر بعمق لخارطة كازاخستان، وجوارها “الإشكالي، التدخلي، العملاق”، بأننا نكاد نشكو من دون سبب، هناك يجدون أنفسهم مرغمين على الرقص عراة مع أسماك القرش، وهنا نجد أنفسنا على عظم التحديات والمخاطر، في مواجهة مع ضواري طاعنة في العجز وتكاد تفقد أنيابها ومخالبها … كازاخستان توفر فرصة نادرة لتعلم السباحة في بحر متلاطم الأمواج.