22 الاعلامي – إلى من علّمني معنى الفقد وصعوبته، واصف الجبعي، الفارس الذي ترجّل عن صهوته ولم تفارقه الابتسامة،
الوجع كبير يا أبي، يكبر كلّ لحظة كلّما تذكّرتُ أنّني عشتُ معكَ، فارسًا عظيمًا، ترجّلتَ عن صهوتك، لكنّك لم تفعل حقًّا، ففي البال، أنتَ هناك، ما زلتَ شامخًا، حاضرًا بحبك، بوجهك، بصوتك، بيدك وهي تمسك يدي في أوّل يوم لي في المدرسة. لم أنسَ أبدًا نصائحكَ التي حبيتني بها، بحضوركَ الذي تحلّقت ألسن الناس حوله، بهدوئك الذي طبع شخصيّةً لم أكتشف فروسيّتها حقّ الاكتشاف إلا وأنا أستمع لكلامِهم عنكَ.
كنتُ أعرف يا أبي قيمتك، أحفظ إرثك الذي خلفته في كلّ مطرح، أعي محبّتك في قلب أصدقائك وأقاربك وروّاد مسجد الحيّ الذي خدمته طوعًا، ولأكثر من اثنين وثلاثين عامًا، لكنّ المرء يحتاج مسافةً كي يفهم، ووجعي أنّ المسافة جاءت برحيلك، كي أدرك كلّ هذا.
منذ طفولتي، وأينما حطّت قدماي في مدرسة أو جامعة أو مؤسسة، في أيّ مناسبة اجتماعيّة، اعتدتُ أن أسمع: أنتَ ابن الأستاذ واصف الجبعي، ولعلّكَ لم تعرف بما يكفي كم كنتُ ولا أزال، أشعرُ بالفخرِ، لا بوصفي ابنك الأكبر فقط، ولا بملامحي التي تشبه تقاسيمك، بل بكَ أنت، بكلّ ما انطبع في ذهني من ذكريات، وآهٍ ما أكثرها، فخور بكَ وأنت فرِحٌ بي وبإخوتي وأبنائي، ب “واصف” ابني الذي حمّلته اسمك، برصيدكَ من المعرفة الذي نحّيتَه جانبًا عن حبٍّ، لتعطيني وإخوتي المساحة والثقة لنتحدّث، لنعلّق، ولنبدي ما يجول في الذهن، وليتَك تعرف الآن ما في الذهن يا أبتي، أنت العالم المربّي، والقارئ المُلمّ، والسياسيّ بديع التحليل، من شخّصَ المشكلة ووضع لها الحلول بحنكته، الشامخ، الصبور حتى في أعتى لحظات المرض، المتمسّك بالابتسامة في وجه الكُلِّ، من علّمني الآن، حتى في غيابه، كيف أجدد إيماني بالله وقدره، ومن جعلني أفهم من جديد أنّ هذه الدنيا ليست إلّا حياة مرورٍ لا مكوثٍ.
والدي الحبيب، أنتَ كُلّ هذا وأكثر.
آهٍ لو تسمع يا أبي ما قيل ويُقال في حقّك، علامَ بتّ أُصبح وأُمسي من طَيِّبِ الكلامِ، من الذكريات الناصعة نصاعة وجهكِ، من طلبتِك وجيرانك، من أصدقائك ورفاق المسجد، وما عزائي إلّان أنّني أعلم يقينًا أنك تعرف كلّ ما يُقال، كيف لا وأنت من زرعتَ هذا الإرثَ؟ كيفَ لا وأنتَ الفارس الذي ترجّل وهو يبتسمُ لقدرِ اللهِ، آبيًا أن يُغادر دون أن يوصيني بأمي وإخوتي وأبنائي، بالرزق الحلال، والتمسّك بالحقوق ولو بنواجذي.
أرجو يا أبتي ألّا تحكمني ملامحي وحدها شبهًا بكَ، بل أن أخرج بشيء من ذاك الإرث، بمحبّة أشبه بالمحبّة التي رأيتها في أعين الناس، وبكلمة تشهدُ لي مثلما ستظلّ تشهدُ لكَ طوال العمر.
في لحظتي هذه، لا أتمنّى إلّا أن أكون على قدر المسؤوليّة التي تركتني معها، أن أحمل اسمكَ وإرثَكَ، أن أحافظ على سمعتكَ، أن أتمكّن من الدعاءِ لك كما تستحقّ، وأن نقدر أنا وإخوتي من التصدّق لك، كما اسمك الذي جرى على ألسنة الناس، فصار ملكهم، تمامًا كما كان ملكك.
أبي الحبيب، الفقد صعب، ولا عزاء يعوّض حضورك، لكنّ عزائي فيك أنّك بتّ في مكانٍ أفضل، هناك عند الرحمن الرحيم، بعد أن ووريت الثرى كما شئت وأوصيت، إلى جانب والدك ووالدتك وأخيك وصفي.
فليتغمّدك الله برحمته، ويحشرك مع شهداء الأردنّ، وشهداء غزّة الأبرار، الذين ارتقوا إلى أعلى المراتب، بإذنه تعالى.
الدكتور محمد واصف