22 الاعلامي – بقلم// صالح إبراهيم الرواشدة
بسم الله الرحمن الرحيم
(وبالله نستعين)
الحمد لله حمداً لا يحصى، ولا اعتراض على قدره، ولا راد لقضائه، واشهد ان لا إله الا الله،وان محمداً رسول الله وعبده وحبيبه وخليله ومجتباه …، وبعد:
إلى أمي … أول من نطق لساني وتمتمت شفاهي بذكرها … إلى من رعت ( إلى جانب والدي رحمه الله تعالى) الطفولة والنشأة … وقومت المسيرة وشحذت الهمم… وقوت العزم والعزيمة، وغرست ألإرادة والإصرار والطموح ، وزرعت الزرع والغرس بوفاء وعهد وحنان الامومة الخالصة والزوجة الصالحة ثم كفلته حتى نشأ ونما وكبر وترعرع وزها ،إلى قوامة الليل ،وصوامة النهار ،الى من تستحق بعد المولى عز وجل الشكر والامتنان والاجلال والاكرام والعرفان وعظيم المحامد…،الى من رعتني صغيراً وحملتني بكل همومي واوجاعي وآلامي صغيراً وكبيراً ، وتحملت من اجلي الكثير والكثير وكان لي من حبها وعطفها وحنانها وودها الحظ الاوفر والوفير … الى من اشفتني بدعواتها (بعد الله عزوجل)مريضاً ، ونجوت من نوائب الدهر مراراً وتكراراً بفضل مناجاتها للواحد الاحد الفرد الصمد الى من لها ( إلى جانب والدي رحمه الله تعالى) الفضل بعد البارئ عز وجل في وجودي الى اغلى وانقى واطهر واعذب واسما حب نما وترعرع … الى اعظم حب كبر وتمدد وتفرع ،ولن ينضب او يتبدد او يذهب او تمحوه السنين والاعوام والأيام.
اخط هذه الحروف وارسمها بإسهاب لعلي استطيع وصف سمات وسجايا من كانت لي عنواناً ورمزاً في الشموخ والوفاء والكبرياء ، وهي حروف نابعه من أعماق قلبي المنفطر حزناً والماً وكمداً وأمهرها ( بعد التسليم بقضاء الله وقدره) بالعبرات والزفرات قبل الجمل والمصطلحات والعبارات
. انها حروف وكلمات تسرد ما لا يسرد من فقد الام العميدة ، والحبيبة ،والرفيقة ،والصديقة واللبيبة ، والرحيمة… سيدة الحب والوفاء والإخلاص والرحمة والحنان ، والرأفة والمودة .
انها كلمات محزون مكدوم مكلوم مكتو بحرقة اللوعة والإلتياع والوداع والفراق …، نابعة من احشاء وصميم القلب ووجدان الفؤاد … اخط فيها هذه السطور العاجزة … عن وصف الام المدرسة والام المربية والحاضنة والملهمة … فأن لم يحزن المرء على فقدان امه كحزن يعقوب او تذرف دموعه على فراقها فعلى من يبكي او يحزن او يتألم او يتوجد او يجزع؟؟؟ نعم انه البكاء الذي قد يطفئ جمرات الحزن ولهيب الفقد وحماة الوجد، وحرارة المصاب الجلل …، بكاء لا يمكن ان يفضي الى محو مرارة اللوعات والنوائب وخاصة نائبة موت اعز وأغلى البشر على قلبي.
وما سلوتُ سلو الاغمار … ولكني تذكرت وعد الله عز وجل للصابرين، فامتثلت وخضعت وسلمت وآمنت، فصرخت منادياً وبأعلى الصوت قائلاً (إنا لله وانا اليه راجعون)، وما زلت وسأبقى أرددها الاف المرات، واتزود بها في كل وقت وحين.
ولئن كان الرثاء والمرثيات عنواناً للوفاء والعهد والوعد …، فمن أحق من (امي)رحمها الله تعالى بالرثاء … ولكن ماذا سيخط قلمي (الحزين الكامد) عن نهر الحنان ومنبعه وبحر الوفاء واخلصه،وأجمل الأشجار واورفها ظلاً، واينعها ثمراً وأعزها كبرياء وشموخاً .
(امي) العز والمفخرة … (سرعه البديهة والذكاء الفطري) كان زادها ، تحسبها أمية التعليم ، وقد أوتيت من رجاحه وفطانة العقل وبيان الفطرة ما تفوقت به على المتعلمين والمثقفين … نعم أمية كانت ولكن آراؤها السديدة الحكيمة تجاوزت آراء ذوي العلم …، أوتيت من سلامة القلب وحب الخير ما تأسر بهما العقل والفؤاد معاً ، فاذا بك تنصاع لبوصلتها الحكيمة الدقيقة ومواقفها الثاقبة عن حب وطواعية بكل سلاسة ودون انقياد او اکراه اوکلل او ملل …، تسبقها القبلة الرحيمة قبل النصيحة الموجهة ، واليد الحانية الحنونة قبل الكلمة الآمرة او الناهية ، والدعوة الفطرية الصادقة الجامعة (وبدون أي تكلف) قبل وبعد واثناء الحديث والمسامرة .
لقد آنست روحها محبة الاحباب والاقرباء والأصدقاء والجيران، فتأثروا وتعلقوا بعذوبة حديثها وكلماتها، وغرست عباراتها وكافة مواقفها الوازنة الموزونة الرزينة في نفس كل من عرفها معنى الحماس والإرادة والعزم والعزيمة والامل والطموح، فالكل كان يصغي الى حديثها وكلامها يستلهمون منه مسيرة العطاء والبناء والبذل والايثار والسخاء والاقدام .
(امي) الصابرة المصابرة التي اتسمت برباطة الجأش …، فلم تزدها فواجع الاقدار وغصة القلب وحرقة الشعور، من يتم الطفولة والامراض المتتالية، وفقد الابناء والزوج والاخوة والاخوات … الا صبراً وقوة ومضاء وجلداً ، وتعلقاً بالخالق الرزاق الوهاب الحنان ذو الجلال والاكرام فلم اذكر يوماً وطيلة حياتي في اصعب واحلك الظروف والأزمات ان امي أنت او ضعفت او شکت او غضبت او
تأففت او ضجرت …، بل كانت تلهج دوماً بدعوات متواصلة مستمرة ملؤها الحمد والشكر والتسليم بقضاء الله وقدره… (الحمد لله على كل شيء الله اعطاني واكرمني بكل شيء تمنيته ، وما شفنا من ربنا الاكل خير ، ويالله ورضى الوالدين ،ويا رب حسن الخاتمة ، ويا رب انت جاهي واتجاهي فلاتخيب رجائي ودعائي ).
كانت (امي ) اما عظيمة مع أبنائها ، وجدة حنونة على احفادها ، مخلصة لله عز وجل في عبوديتها وديانتها ، وفية مخلصة مطيعه لوالدي ( رحمه الله تعالى) في حياته وخلال مرضة وبعد وفاته كانت امي رحيمه رؤوفة تحمل بين ثنايا اضلعها قلباً محباً معطاء كبيراً ، لا تعرف الا العفو والمسامحة ، وكانت (رحمها الله تعالى) طيبة النفس والمعشر ، انيقة المظهر وصاحبة قلب ابيض طيب مطهر…، ترضى بالقليل ويغمرها الكثير والكثير، تأكل ما وجدت ، ولا تسأل عما فقدت ، كانت حامدة دوماً وشاكرة لمن اهداها واعطاها ، غافلة متغافلة عمن منع او اعطى قليلاً وأكدى وبخل وامسك…، بل واجزلت السخاء والعطاء للجميع دون أي محاباة او تمييز ، وضحت بالغالي والنفيس وما كانت تبتغي من الدنيا الا رضى البارئ الجبار العزيز .
كانت (امي) عفة اللسان والكلام، طاهرة ، ورعه، نقية ، عابدة ومتعبدة ، فأوجدت بينها وبين القلوب والافئدة تآلفاً وتساوقاً وانسجاماً ومحبة ، حيث جعلت بينها وبين ربها سبباً ، فأحبها حباً صادقاً كل من لاقاها وكل من عرفها وخالطها …، كانت لا تحسد ولا تعيب احداً ، قناعتها بأن الغنى غنى النفس وعزتها ، فقد كان فؤادها مطهر من الغل والحسد ، وحرصها الشديد على مداراة ومسايسة من حولها ، عف لسانها عن الزلل والخطأ والخلل ، رضاها بقدر الله عز وجل والتسليم لأمره حال من ان تغضب او تسخط او تحقد او تجزع ، لا تذكر احداً بسوء ، كانت تحترم الكبير والصغير ،وترحب وتبتهج بالزوار في ديوانها ذاك البيت العتيق،( بيت العائلة الكبير)…، اجمع على احترامها وحبها الأبناء والبنات ، والاخوان والاخوات ، والاحفاد والاسباط ، وزوجات الأبناء وازواج البنات ،وسائر الأقارب والجيران والمعارف والاحباب ، كانت (امي) هي شجرتنا الوارفة الظلال وخيمتنا التي تقينا لهيب حر الصيف وبرد الشتاء القارس ، نجتمع حولها ( الشباب والبنات والاحفاد)…، في كل وقت وحين بلا حرج ولا موعد او ميعاد ، وهي مع هذه الجلسات والسهرات تملؤها الفرحة والبهجة والسعادة والسرور، حيث التئام الشمل والبر وصلة الارحام . أبناؤها واحفادها هم الضياء لناظريها ، والاكف لساعديها ، هم فلذات كبدها وثمار كدها وتعبها وشقائها.
نعم لقد كانت (امي) خيمتنا وشجرتنا، وستبقى اجمل واحن خيمه واثمر شجرة واينعها ، ولا ظل بعد ظلها وظل والدي (رحمهما الله تعالى ) ، الا ظل المولى عز وجل ، وستبقى امي ما حييت اجمل نساء العالم واحن النساء واعطفهن وارحمهن واودعهن واطيبهن ….، امي هي الأرض بكل تفاصيلها وتضاريسها كانت تحملني عندما امرض وحينما اغفو وانام على صدرها الحنون …، اشجارها تغطيني…، وهي السماء حينما افرح كانت تنتشلني من الأرض وتطير بي في حضنها لأرقص مع الكواكب والنجوم … امي هي تلك السفينة التي اقلتني وحملتني طيلة عمري ولأكثر من خمس عقود الى بر الامن والأمان …، وهي لؤلؤة المرجان التي ارشدتني بنورها وحنكتها وحكمتها وافقها الواسع الى الطموحات والاحلام …، وهي الشمعة المنيرة المشعة التي كانت معي دوماً تشعل نفسها لتضيء طريقي في منارات الحياة والعالم والكون كله مهما ازدحمت به الانام … امي هي كل شواطئ المحيطات والبحار والانهار وكانت ترسل حبالاً من السماء لأرسو آمنا بين احضانها عندما اتعرض لعثرات الدهر وحسد الأشرار …(امي) غفت للأبد … ولم تعد تستيقظ حيث كان العالم بصحوها يستيقظ كل يوم … وتتفتح تلك الأشجار التي غرستها وزرعتها … وتزهو وتزدان الورود في الحدائق والجنان … وتزقزق وتغرد عصافير الكون في الازقة والشوارع والحارات القديمة والاودية والوديان ، نعم لقد غفت امي ونامت في قبرها … فمات الصوت وماتت الدنيا بأسرها وأصبحت الحقول والبساتين المخضرة صحاري قاحلة… والحدائق والشوارع والتلال والهضاب مقابر ومآتم يلتفها الحزن والاحزان من كل صوب وجانب …وانطفأت الانوار ونفذ الوقود من كل مدافئ العالم ولم اعد اشعر بالدفء من برد الشتاء والامطار ..نعم لن تعود امي ولن تعود ولن تجلس في ذاك الركن البعيد وفي صدر الديوان العتيق الذييعج بالذكريات والاسفار .
امي يا وجعي وألمي وجزعي وكمدي . وداعاً ايتها المريم والدواء والمرهم … وداعاً يا بستاني اليانع الأخضر … وداعاً يا عمري الاسعد والأبهج … وداعاً يا طوق نجاتي الأوحد…ويا هرمي الأعظم وياقمري المضيء الأبيض …يا سمائي الصافي الأزرق … وداعاً يا ملاكي وشمسي وبحري ونهري الاعذب… وداعاً يا اميرتي وغاليتي المتربعة على عرش فؤادي للأبد … وداعاً ايتها الاميرة النائمة في قبرك ولحدك للأبد… وداعاً امي الحبيبة أنت وليس غيرك للأزل وللأبد …. وداعاً امي المريم الدواء والمرهم والبلسم.
لقد كانت خاتمة (امي / رحمها الله تعالى) مليئة بالعبر والتفكر …، حيث استجاب المولى جل وعلا لدعواتها (اللهم حسن الخاتمة ) ، فقد توفاها الله فجر يوم الجمعة الموافق (١١/٢٤/۲۰۲۳)وهو اليوم الأفضل والاحب للمولى عز وجل ، وهذا من اعظم ما اكرمها الله عز وجل به من التوفيق بأذنه لحسن الخاتمة ، فقد كانت (امي) مسارعه في اعمال الطاعات ونوافل العبادات ، فلا تقبل تأجيلها ولا التسويف ، ولا الاعذار او الاعتذار ، وكانت إذاعة القرآن الكريم بالنسبة لأمي هي مجالس الذكر وحلقات العلم ، فقد كان لها ميعاد ثابت وكل يوم لسماع القرآن الكريم ، وكانت تواقة دوماً لسماع صوت (الشيخ عبد الرحمن السديس ، والشيخ عبد الباسط عبد الصمد).
يا امي الرؤوم والحنون … كأن الورود والازهار بكل صنوفها وانواعها والوانها نهلت منك تفتحها وجمالها، وفاحت عبق شذاها من اخلاقك الندية ، فلقد تعلمت من لطفك ما يكون لي قوتاً وزاداً في مسيرة حياتي فمنك تزودت بالحماية والحصانة في الدنيا من آلامها واوجاعها ، ومنك تزودت من بالدنيا بآمالها واحلامها ، لقد كنت (يا امي) ترفعين اكفك باليل والنهار الى السماء تطلبين متوسلة من الواحد القهار الصبر والمدد والثبات والسؤدد ، وانا أنام واغفو قرير العين مؤمن باستجابة رب غفور رحيم لدعوات ام رؤوم وحنون . ….، کنت تنصبین اشرعة الدعاء فيسيرها الخالق عز وجل بريح طيبة … فلم اشعر طيلة حياتي كلها الا بكل توفيق وتسهيل ويسر …، ( وماكنت انجو من الازمات والاوجاع والآهات والحسرات والمتاهات والصعاب والتحديات الا بدعواتك لي .
(امي) مهما وصفتك سأبقى عاجزاً مقصراً لأنك فوق الوصف، وتعجز الكلمات بكل لغات العالم اجمع عن صياغة وكتابة الخواطر والقصص والقصائد والروايات التي يمكن ان اخطها وارسمها بقلمي عنك…، عذراً يا غاليتي فلن أقدر على الكمال في الوصف والتوصيف والتجسيد والتشخيص .
أمي وغاليتي وملهمتي ومعلمتي … ليس هناك اعظم من فقدك الا زلزلة الساعة، وليس هناك انكى من رؤيتك وانت مسجاه بلا حركة وحراك …، لأول مرة (يا غاليتي) في حياتي انظر اليك ولا تنظري إلي، ولا تحاولي النهوض لتضميني الى صدرك الحنون الروؤم ، نظرت الى جثمانك الطاهر وهو مسجى في البيت العتيق وممدود امام المودعين والمودعات من اشقائي وشقيقاتي والاقرباء …، وانا في ذهول واستعدت شريط الذكريات ومسيرة الرحلة مع الام الغالية والحنونة فانهمرت الدموع وسالت وغطت الوجنتين وفاضت ، وتحشرجت الآهات والغصات في الصدور وصالت وجالت …، واسرعت نبضات ودقات القلب وجعاً والما وفزعاً وجزعاً على فقدانك … كنت اردد متسائلاً بيني وبين نفسي واتمتم هل فعلا ان وفاة (امي) صارت وباتت وأصبحت حقيقة وانه ليس لي من مفر بعد الان الا ان أقول ان امي كانت وكانت وكانت ؟؟.
فيا امي واقولها خاتماً رثائي لك : وداعاً ايتها الروح الزاهدة الطاهرة المطهرة النقية العابدة المتعبدة الطائعة لله عز وجل ، فلن انسى طعم خبزك ولن انعم من اليوم بطعم قهوتك العربية الاصيلة او بطيب دعواتك ودفء احضانك فلقد كنت لي ظلاً ودرعاً وسلاحاً واقياً … وكنت لي سنداً ، وداعاً امي أيها العش الدافئ الذي احتضنني واستوعبني صغيراً وكبيراً ، ولازمني شباباً … كنت لي نعم الدواء والشفاء …، ( وداعاً يا مصدر الوفاء والالهام والحب والإخلاص الذي لم تغيره او تزيفه معايير وقوانين الدنيا بأسرها ولا منظومة وتعليمات البشر …، واسأل الله المولى عز وجل ان يجعلك ممن ترحب بهم الأرض ، وتستبشر بهم السماء ، وان يجعل آرائك الجنة وسادك بعد ان وسدناك الثرى، وان يسقيك من حوض نبيه عليه افضل الصلاة والسلام شربات ماء لا تظمئين بعدها ابداً وان يمتعك متاعاً سرمديا في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، وان يتغمدك بعفوه وغفرانه ومغفرته ، وان يجعل اخرتك افضل من دنياك ، وان يبرد مضجعك ، وان يرحمك رحمة الصالحين الابرار ، اللهم ان امي في قبضتك وبين يديك ، اللهم ارحمها واغفر لها ، اللهم نور قبرها وعطر مرقدها ، اللهم ارحم ابي وامي وآباء المسلمين وامهاتهم رحمه واسعه ، واجمعنا وجميع المسلمين جوار النبي محمد صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى من الجنة … اللهم آمين آمين آمين … ، ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم ، وانا لله وانا اليه راجعون.
الدستور