مقالات
أخر الأخبار

أبو عمارة يكتب: حَــكَــايـــا فِـــنــجـــان قَـــهــوَتـــي (6) .. نَــظَــرِيَّــة الأَهَــمِّــيَّــة

22 الاعلامي – بقلم د.محمد يوسف أبو عمارة

شَمسُ هَذا اليَوم مُختَلِفَة .. فَهِيَ أَشَدُّ حَرارَةً مُنذُ بِدء فَصلُ الصَّيف ، فَهُيِّئَ لِي أَنَّ الشَّمس قَريبة جِدًّا مِن رَأسي ويكأَنّها تَنظُر إليّ شَخصِيًّا وتُحاوِلُ أَن تُحادِثني ولكنَّني ولِشِدَّةِ حَرارَتِها لَم أَطِق حَديثها فَلَم أَستَطِع النَّظَر إليها… وأشحت بوجهي عنها وهَروَلتُ نَحوَ سَيّارَتي ، وبِمُجَرَّد رُكوبِها سارَعتُ إِلى تَشغيل المُكَيّف .. الذي أَعتَبِره مِن أَعظَم اختِراعات البَشَر، غلط لما قُلت أَنّ المُكَيّف و(JPS) مِن أَهَم اختِراعات هذا القَرن .. في هذا اليَوم تَعاطَفتُ جِدًّا مَع مَن يَعمَل تَحتَ حَرارَةِ الشَّمس كالعُمَّال ورِجال الأَمن وقُلتُ في نَفسي أَعانَكُم الله عَلى هذا الحَرّ ..

تَحَرَّكتُ نَحوَ عَمَلي وعَلى غَير العادَة فَقَد كانَ الطّريق أَشبه بالخالٍ مِن السَيّارات ، رُبَّما أَنّ مُعظَم الأَشخاص قَد آثَروا البَقاء في المَنزِل لِشِدَّة الحَرارة ..

وَصَلتُ المَدرَسَة حَيثُ طَلَبتُ مِن أَبي سُلطان أَن لا يَقِف تَحتَ الشَّمس وأَن يَقي نَفسَهُ حَرَّها وسارَعتُ الدّخول لِمَكتَبي وانتَظرتُ فِنجاني العَزيز ولكنّه .. لَم يأتِ .. نادَيتُ عَبرَ مُكَبّر الصَّوت ..

أَفنان .. أَفنان .. لِكَي تُحَضِّر لِي القَهوَة وإِذ بإِحدى زَميلاتي تُخبِرني بأَنّ أَفنان اليَوم مُجازَة وأَنّ هُناك فَتاة أُخرى -إِن رَغِبت -سَتَقوم بِعَمَل فِنجان القَهوَة لي ولكنّي اعتَذَرتُ مِنها وتَوَجّهتُ نَحوَ المَطبَخ بَحَثتُ عَن ( بَكرَج أو ركوة) القَهوَة ولكنّي لَم أَجِده فاتّصلت بأَفنان ..

– أَفنان سَلامات اعتذار لإِزعاجك ولكنّ أَينَ تَضَعين ( بَكرَج ) القَهوَة .

– أَهلاً دكتور ، إنَّهُ في الرَّف الثّالِث عَلى اليَمين .

– آه .. نَعَم إنَّه هُنا أَشكُرُك ..

وَبَعدَ أَن ملَأتُ بَكرَج القَهوَة بالماء وأَشعَلتُ الغاز بَحَثتُ عَن القَهوَة ! أَينَ القَهوَة ؟! وعدتُ للاتّصال مَرَّةً أُخرى

– أَفنان أَعتَذِرُ عَن إزعاجِك ، أَينَ القَهوَة الخاصَّة بي ؟!

– دكتور ، إِنَّها في الجارور الرّابِع مِن جوارير الخَزانة الوُسطى ومَكتوب عَلى عِلبَة القَهوَة ( د.محمد ) ..

– آه .. نَعَم ، هاهِيَ ، شُكراً لَك ..

وبَدَاتُ بِطُقوس غَلي القَهوَة حَيثُ أَنّني أُحِبُّ القَهوَة كَثيفَة و أُحِبُّ أَن تُغلى القَهوَة مَع الماء البارد حَتّى يَتَشَبَّع الماء بالطَّعم وأَيضاً أَرفُضُ أَن يُغسَل فِنجاني الخَاص للقَهوَة بِمَواد التَّنظيف وإِنَّما يُغسَل فَقَط بالماء وذلكَ حَتّى لا يَتأَثَّر بِطَعمِ تِلكَ المُنَظّفات .. ومن شدة حبي للقهوة فأنا أميّز إن تم غسله بسائل الجلي!

وعِندَما تغلي القَهوَة .. أَجعَلُ تِلكَ الرَّغوَة تَتَساقَط في الفِنجان إلى أَن يَمتَلِئ .. ولكنّ أَينَ فِنجاني ؟!

– ألو .. أَفنان ، عَفواً وأعتَذِر عَن ازعاجِك أَينَ فِنجاني القَهوَة ؟!

– دُكتور شو رَأيَك آجي أَعمِلَّك أَنا القَهوَة .. أَسهَل لي ؟!

– لا مافي داعِ ولكنّ أَخبريني أَينَ فِنجاني ؟!

– إنَّه في عِلبَة خَشَبِيَّة مُرَبَّعة أَهدَتني أَنتَ إيّاها وقُلتَ لي ضَعي فيها فِنجاني ويا وَيلُك إِن كُسِر ، والعلبة فوق الثّلاجَة دُكتور …

– نَعَم ، هاهِيَ .. شُكراً أَفنان

– دُكتور هَل تُريد شَيئاً آخر ، لأَنّني سَوفَ اُغلِق الهاتِف

– لا شُكراً ، ولكنّ لِماذا تَكَلّمت مَعي هكذا هَل أَزعجتُها مَثَلاً ؟!

لَم أَكُن أَعرَف أَهَمِيَّة أَفنان بالنِّسبَة لي ، فعلاً أَنّ كُلّ شَخص في مَكانِه مَلِك !!

تَذَكَّرتُ مَقولَة لِوالدي رَحِمَهُ الله ، أَنّ أَقل مُوَظَّف في أَكبَر شَرِكة لا يَقِلُّ أَهَمِيَّة عَن مُديرها العام ، لأَنّ لِكُل مِنهُم قيمَة ووَظيفَة .. وكُلّ مِنهُم يُفيد الآخر ..ويكمل عمله.

دَخَلتُ مَكتَبي وَسطَ استِغراب الجَميع لأَنَّني مُنذُ مُدَّة طَويلة لَم أَصنَع القَهوَة بِنَفسي ..

وَصَلتُ مَكتَبي وَضَعتُ فِنجانَ القَهوَة أَمامي وتَرَكتُهُ حَتّى يصفى وَجهَهُ مِن اهتِزازات الطَّريق ..

وشَعَرتُ اليَوم بِعلاقَة أَكثَر حَميمِيّة مَع الفِنجان .. فَاليَوم أَنا مَن قامَ بِغَسلِه وحَملِه وسَكبِ القَهوَة بِداخلِه

وقَبلَ أَن أُمسِك فِنجاني جاء صَوتُ فَيروز ..

أعطني النَّاي وغنِّي.. فالغِنا سِرُّ الوجود ..

وأنين النَّاي يبقى .. بعد أن يفنى الوجود ..

النّاي.. هذه الآلة التي تَرتَبِطُ دَوماً بالحَنين والحُزن ، لِماذا يا تُرى ؟! هَل السَّبَب هُوَ أَنّ موسيقى هذه الآلة تَختَلِطُ مَع أَنفاس العازِفِ الذي يَبُثُّ أَنفاسَهُ فيها ويكأَنَّه يَقوم بِعَمَلِيَّة تَنَفُّس اصطِناعي لِهذِه الآلة لِيُعيد لَها الحَياة وتُكافِئَهُ هِيَ بِأَصواتِ شُكرٍ وحنين مِن أَعماقِ آلة حبستها داخِل جَوفِها مِن سِنين ..

 رَشَفتُ الرَّشفَة الأُولى .. لِأَرى أَشكالاً غَير منظَّمة ويكَأَنَّها أَوراقُ شَجَرٍ خَريفيَّة مُتَساقِطَة في غابَة تَعُجُّ بالأَشجار فتُشَكّل لَوحَة مِن الأَلوان الصَّفراء والبُرتُقالِيَّة وما بَينَهُما مِن دَرَجات .. مَزيج طَبيعي .. رُبَّما قَصد فِنجاني بذلِكَ بأَنّ لِكُلّ شَخص تُقابِلُه فَترَة صَلاحِيَّة رُبَّما تَطول أَو تَقِلّ حَسَب المصلحة والعَلاقَة وأَنّ قِلَّة مِن الأَشخاص هُم فَقَط مَن يَستَمِرّوا مَعك. فالأَغلَب يَتَساقَط أَمام العَواصِف والرّياح فالبَعضُ يَسقُط مِن شِدَّة العَواصِف ،والآخر يَختار هُوَ المُغادَرَة بخاطِره دونَ أَيّ عَواصِف أَو ضُغوطات ولا يَبقى سِوى المُخلِص المُتَمَسّك بِك لا لِشَيء .. إلا فَقط لأَجلِك ..

وكذلك النّاس مُلَوَّنون بأَشكالِهِم وأَفكارِهِم وآرائهم كأَوراقِ الشَّجَر لِكُلّ حُلم وغايَة و طِباع فإِن أَردتَ أَن تَحيا سَعيداً فَعَليكَ الامتزاج مَع كُلّ هذه الأَلوان واستيعابِها جَميعاً لِتَكون أَنتَ الفَنّان الذي يَضَع كُلّ لَون في مَكانِه المُناسِب دونَ أَن تصبغ بِلَونِ أَحَدهُما ..فالفنان المبدع من يتقن استخدام الألوان وتوظيفها وليس العكس.

 رَشَفتُ الرَّشفة الثانِيَة .. والتي ذابَت بِها الأَشكال الشَّبيهَة بأَوراقِ الشَّجَر واقتَرَبَت مِن أَطراف الفِنجان لِتُشَكّل ما يَشبهُ الجِبال أَو الصُّخور ..

ويَصِلُ صَوتُ فَيروز ..

هل تَخَذت الغاب مثلي .. منزلاً دون القصور ..

فتتبَّعت السواقي .. وتسلَّقت الصخور ..

هل تحمَّمت بعطر .. وتنشَّفت بنور ..

رُبَّما أَنّ لِكُلّ مُجتَهِدٍ نَصيب ووجود العَقَبات في بِدايَة الحَياة مُؤَشّر لأَنّ القادِم سَهل لِمَن اجتازَ الصّخور لَن يُعيقَهُ الأَرض المُنبَسِطة .. وهَل هُناكَ مُقارَنَة بَينَ مَن طَحَنَتهُ الحَياة بَينَ فَكّيها وبينَ مَن وُلِدَ وفي فَمِه مِلعَقَة مِن ذَهَب ؟! وأَيُّهُما يَصلُحُ للحَياة ؟! وهَل ذَنبُ مَن وُلِدَ وفي فَمِهِ مِلعَقَة من ذَهَب أَنّهُ وُلِدَ كذلك ؟! ولِماذا دَوماً نَشعُرأَنّ هُناك ما يُشيرُ إلى أَنّ أُولئكَ الذينَ يولَدونَ في أُسَر ثَرِيَّة لَن يَكونوا ناجحين كَما أُولئِكَ الذين وضَعَتهُم الحَياة بَينَ فَكَّي كَمّاشَة ! وهَل هذا الكَلام صَحيح ؟!

رَشَفتُ رَشفةً أُخرى .. وأَنا أَستَعرِضُ العَديد مِن الشَّخصيّات في ذِهني مِنهُم مَن وُلِد لأُسرَة ثَرِيَّة وقامَ هُوَ بِتَبديد ثَروَتها وآخر عِصَاميّ بدَأَ مِن تَحتِ الصّفر إِلى أَن أَصبَحَ قُدوَة لَنا جَميعاً،وآخر ولد لأسرة ثرية فزادها ثراءً وآخر ولد في  أسرة فقيرة فزادها فقراً ..

وهَل اختَلَفَت التَّربية القَديمَة عَن الحَديثَة ؟! وهَل العناية الزّائدة تُفسِدُ الجيل ؟!

نَظَرتُ لِفنجاني الذي بَدا حيراناً مِثلي حَيثُ اختَلَطَت خُطوطَهُ وتَناثَرَت وعادَت لتتجَمَّع عِندَ الأَطراف بانتِظام دونَ دَلالاتٍ رَمزِيَّة !

عُقدَة الثَّري والفقير رُبَّما تَكون عُقدَة الفَقير أَكثَر مِنها لِدى الغَنيّ وأقصدُ هُنا غَنيُّ المَال ، ولكنّ هَل الغنى مَحصور فَقَط بالمَال .. فَكَم مِن فَقير مال لَديهِ قَناعِة وسَعادَة تَفوق مَن يَملُك ملايين الدَّنانير ؟!

فَكَم مِن جائع للمَال يَشعُر بالنَّقص والعوز بِرُغمِ الأَرقام الكَبيرة التي يُخفيها في البُنوك ، وهُناك غَنيّ العِلمِ وفَقير العِلم ، وغَنيّ الثَّقافَة وفَقير الثَّقافِة ، وغَنيّ الأَخلاقِ وفَقير الأخلاق ..

فالغِنى والفَقر لا تَرتَبِط فَقَط بالمَال ..

وعُدتُ لِأُرَكّز مَع فَيروز وأَنا أَرتَشِفُ مِنَ الفِنجان .. 

إنَّما النَّاس سطور .. كُتبت لكن بماء ..

نَعَم أَحسَنتِ جبران بِوَصفِ النّاس بِسُطورٍ مِنَ الماء .. سُطور مِن الماء أَي تَزول وتُمحى حينَما يَشاءُ القَدَر وما الأَشخاص إلا حِكايات تَمُرّ في حَياتِك وتُكتَب بِماء يَزول بِسُرعَة وهؤلاءِ الأَشخاص مبهمون لا لَونَ لَهُم ولا طَعمَ ولا رائحة .. فَلا يَعكِس الشّكل الخارجي عَمّا يَدور في داخِل كُلّ مِنهُم فالأَشخاص ومَهما اعتبَرتَ نَفسَك خَبيراً بِهُم يَبقونَ غامِضون مُبهَمون تَماماً كالماء الذي يَكون ناعماً ورمزاً للحَياة وبِنَفسِ الوَقت هُوَ مَن يَشقّ الصّخور ويَختَرِق الحَديد وأَحياناً يُغرِق المُدن ويَقضي على مَظاهِر الحَياة التي هُوَ بالأساس أَهَم أَسباب وجودها .. كما قالدالخالق ( وجعلنا من الماء كل شيء حي )فإذا ما زادَ عَن حَدّه كانَ قاتِلاً ؛كَما هُم البَشَر فَكَثرَة التّعاطي مَعهُم رُبَّما تَكون قاتِلَة في كَثير مِن الأَحيان ورُبَّما أَن الاعتدال في التّعامُل مَعهُم وكَما أُكَرّر دَوماً عَدَم التَّعَمُّق يَجَعل الفائدَة المُحَصّلة مِنهُم عَلى أَعلى دَرَجة …

رَشَفتُ آخِر رَشفَة .. وأَنا أَستَعرِضُ أَهَمِيَّة الأَشخاص في حَياتِنا وأهَميّة العَمَل الجَّماعي فالمُدير مُهِم والمُساعِد مُهِم والمُراسِل مُهِم فَكُلّ ملك في مَكانِه ، وكُلّ عَزيز عَلى أَهلِه وجَماعَتِه والكُلّ يَعتَقِد بأَنّه الأَهَمّ لِذا فَلا تحقّر أَحداً أَو تُشعِرهُ بِعَدَم أَهَميّة وتعامل مَعه كتَعاملك مَع الماء دونَ تَعَمّق وليس مِن الضَّروري كُلَّما أَردتَ شُربَ كَأس مِن الماء أن تعدّ ذَرّات الهيدروجين وذَرّات الأُكسجين !

نَظَرتُ إلى فِنجاني وقُلت ما لَم تُغَنّهِ فَيروز لَه ..

لَيسَ حُزنُ النَّفسِ .. إِلّا ظلّ وهَمٌّ لا يَدوم

وغيومُ النَّفسِ تَبدو .. مِن ثَناياها النُّجوم

فاهِم يا صَديقي .. شَعرتُ بأَنَّهُ يوحي لي بِعِبارَة نَعَم .. ودَندَنتُ وإيّاه ..

أعطني النَّاي وغنِّي.. فالغنا سرُّ الخلود

وأنين النَّاي يبقى .. بعد أن يفنى الوجود

بِقَلَم :

د.محمد يوسف أبو عمارة

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى