22 الاعلامي – بقلم طارق ال خطاب
تعد مدينة معان فاصلة هامة في خط سكة حديد الحجاز ، فهي حاضرة الجنوب الأردني ، وهي في الوقت ذاته بوابة الحجاز ، حيث يعبرها الحجاج من كل فج عميق في طريق الحج والتجارة ، وتعد معبر الهجرات من الجزيرة العربية إلى بلاد الشام والعراق ، وهذا ما جعلها على صحراويتها ، مدينة مزدهرة وعابقة بالحركة والتجدد ، ولعل التنوع الديموغرافي للمنطقة قد أثرى المدينة، وجعل منها منطقة اتصال وتواصل على مر الأيام .
وفي بدايات القرن الماضي وتحديداً في العام 1913م ولد بهجت التلهوني في قلب هذه المدينة الواحة، فلا غرو أن تلك البطاح المفتوحة على المدى الرحب، قد أسهمت في تشكيل شخصيته، وهو يعفّر قدميه في دروبها الترابية ، طفلاً يلهو وتغدوه نظرة لمستقبل كبير قادم ، فنشأ في هذه المدينة البعيدة القريبة في آن ، وعندما إندلعت الحرب العالمية الأولى، واضطربت منطقة الشرق العربي ، غادر مع عائلته قاصدين الشام ، وكانت الطريق غير آمنة ، بسبب ضعف الدولة العثمانية وانتشار الغزوات وقطّاع الطرق ، وكان القدر بإنتظار هذا الطفل الصغير ، فلقد فقد عائلته بالطريق ، حيث قتل والداه وإخوانه ، ووجد نفسه هائماً ضائعاً لا يلوى على شيء ، حتى التقطته أيدي الناس وحملوه إلى أقارب له من طرف خالاته في دمشق ، فأووه لفترة من الزمن ، ولعل هذه الأحداث الجسام لو مرت على طفل آخر لكانت مدمرة لنفسيته ولحياته ، ولكن الله لطف به، ومنحه قوة الإرادة والعزيمة مما ساعده على تخطي هذه المنحة .(د.محمد العناقرة)بعد مدة ليست بالطويلة ، عاد الطفل بهجت إلى عمان ، حيث ضمه عمه خليل التلهوني إلى بيته وتكفل برعاية ابن أخيه ، وألحقه بالمدرسة الابتدائية، مع أن المدارس وقتها كانت قليلة العدد وصغيرة الحجم ، وكان حبّه للعلم كبيراً يقوده في ذلك حدسه الخاص وطموحه بمستقبل مختلف ، لذا كانت رغبته في إستكمال دراسته الثانوية جامحة، فلقد واجه قرار عمه إلحاقه بالعمل في التجارة بإصرار واضح ، وطالب أن يسمح له عمه بالذهاب إلى السلط لإكمال دراسته الثانوية ، وقد عبّر بهجت عن هذا الاصرار عندما طلب من وجهاء معان التوسط له لدى عمه فاستجابوا له ، عندها حصل على مبتغاه ودرس في ثانوية السلط ، ولم يقف الحلم عند هذا الحد، فشد الرحال الى دمشق الشام والتحق بالجامعة، وتمكن من الحصول على شهادة جامعية بالحقوق ، وعاد بعدها الى عمان وقد حقق ما أراد ودرس التخصص الذي أحب ، فدخل إلى الحياة العملية بكل حماسة ونشاط ، وعمل في مكتب العظمة للمحاماة لفترة من الزمن ، ثم أدار المكتب بعد سفر عادل العظمة إلى دمشق ، واستمر في عمل المحاماة حتى عيّن قاضياً، بعد ذلك أصبح رئيساً لمحكمة بداية الكرك ورئيساً لمحكمة بداية إربد . وعندما أنهى جولته هذه عاد إلى عمان مسلحاً بالخبرة الميدانية الواسعة ،فتم تعيينه رئيساً لمحكمة البداية والإستئناف في عمان ، حيث أمضى في سلك القضاء قرابة ستة عشر عاماً تكللت كلها بالإنجاز والنجاح.
دخل بهجت التلهوني العمل السياسي من خلال حكومة فوزي الملقي ، حيث دخل تشكيلة الحكومة وزيراً للداخلية عام 1953 م ثم وزيراً للعدلية بعد ذلك. وخلال فترة بالغة الأهمية وفي عهد جلالة المغفور له الملك حسين بن طلال تم تعيين بهجت التلهوني رئيساً للديوان الملكي، ليكون بذلك أول رئيس ديوان في عهد الحسين رحمه الله، وكان ذلك في 15/5/1954م ، حيث استمر في هذا المنصب حتى العام 1960، وعاد لرئاسة الديوان سنة 1964 م . وقد عرف عنه الجرأة في العمل والقدرة على تحمل المسؤولية ، حيث شهدت فترة رئاسته للديوان الملكي أحداثاً هامة تطلبت الحزم وأخذ المبادرة ، كقرار الملك بتعريب قيادة الجيش ، حيث قام بصحبة فلاح المدادحة بإبلاغ كلوب باشا بقرار جلالة الملك الذي نفذه مجلس الوزراء. أصبح بهجت التلهوني رئيساً للوزراء لأول مرة عام 1962م ، وقد استلم مهام الحكومة في أعقاب أحداث كبيرة ، كحادثة اغتيال رئيس الوزراء هزاع المجالي ، وشكل التلهوني الحكومة بعد ذلك ثلاث مرات في فترات مختلفة .وعندما تسلم رئاسة مجلس الأعيان كان إنموذجاً ناجحاً في الإدارة والتشريع ، وقاد المجلس بما توفر لديه من خبرة كبيرة، وعلاقات حسنة مع الجميع ، ويعد انجازه الأبرز على مستوى الوطن العربي، هو إنجاز القانون المدني عام 1977م (المرجع السابق) ، وقد تم إعتماد هذا القانون من قبل جامعة الدول العربية ، حيث أظهر مقدرة قانونية وعملية كفلت له النجاح والتميز ، وعيّن مستشاراً خاصاً للملك الحسين بن طلال عام 1983م ، وأصبح عضو شرف في الاتحاد البرلماني العربي مدى الحياة اعتباراً من العام 1983م . وقد نال التلهوني عدداً من الأوسمة التكريمية منها وسام النهضة الأردني من الدرجة الأولى ، وميدالية الاستقلال الذهبية من الرئيس الباكستاني ، ومن الصين الوطنية قلّد وشاح ووسام الكوكب الساطع الأكبر ، وكذلك الوسام البابوي ، بالإضافة إلى عدد كبير من الاوسمة العربية والاجنبية. وإن نستذكر اليوم بهجت التلهوني أحد بناة الدولة الأردنية الحديثة ، الذي انتقل إلى رحمته تعالى عام 1994، فإننا نسجل له انجازاته التي بقيت شاهدة على رجل أعطى للوطن كل مالديه من حب ومعرفة وانتماء، وأخذ منه التكريم والمكانة الملائمة ، فهذا وطن العطاء والمحبة.