
22 الاعلامي – بقلم : الدكتورة جمانة حطاب
في أحد الأيام، وبينما كنت أتابع مناظرة انتخابية بين مرشحين من أحزاب مختلفة. لفت انتباهي قول أحدهم: “حزبنا هو الأفضل لأنه الأكثر شعبية.” بدت العبارة مألوفة لي بشكل غريب، وكأنني سمعتها من قبل. عندها تساءلت: كيف يمكن لحزب أن يثبت جدارته بمجرد الاعتماد على شعبيته؟ أليس هذا تكرارًا للمسألة دون حل؟ هنا أدركت أن هذا النوع من التفكير، المعروف بالمنطق الدائري، ليس مجرد زلة لسان، بل نمط متكرر في النقاشات السياسية.
التفكير الدائري يشبه ذلك الحديث الذي يدور حول نفسه دون أن يخرج منه شيء جديد. إنه عندما تُستخدم النتيجة لتبرير المقدمة، والمقدمة لإثبات النتيجة.
يظهر التفكير الدائري في السياسة بشكل جلي، حيث تُبنى الحجج على إعادة صياغة نفس الفكرة بطرق مختلفة دون تقديم دليل مستقل. وما يجعل هذا النوع من التفكير خطيرًا هو أنه يبدو منطقيًا في البداية، لكنه في الواقع يخفي عجزًا عن التبرير الحقيقي.
ومن الأمثلة على التفكير الدائري في السياسة؛ الحجة التي تقول: “هذا الزعيم جيد لأنه زعيمنا.” هنا، يتم تقديم الزعامة كدليل على الجدارة، دون التطرق إلى إنجازات أو أفعال ملموسة تُبرر ذلك. مثال آخر يظهر في القوانين القمعية، حيث يُقال: “هذا القانون ضروري لأنه يحافظ على الاستقرار.” لكن إذا سألت عن كيفية تحقيق القانون للاستقرار، ستعود الإجابة لنفس النقطة: “الاستقرار يعتمد على هذا القانون.” وفي الاقتصاد، نجد حججًا مثل: “الاقتصاد قوي لأن القيادة تتخذ قرارات صائبة.” دون تقديم أي تحليل يربط بين القرارات والنتائج الفعلية.
إن هذه الحجج ليست مجرد أخطاء عابرة في النقاش، بل هي أنماط متكررة تُستخدم لتجنب المساءلة أو التعمق في الحقائق. وعندما نعيد التفكير في هذه الأمثلة، نلاحظ أنها تشبه دائرة مغلقة، تبدأ من نقطة وتنتهي عندها دون أي تقدم.
وما يجعل التفكير الدائري مشكلة كبيرة هو أنه يمنع النقاش السياسي من أن يكون مثمرًا. فعندما يُستخدم هذا النمط لتبرير القرارات، تصبح المساءلة شبه مستحيلة، لأن كل محاولة للاستفسار يتم الإجابة عليها بنفس الحجة المعادة. أما على المستوى المجتمعي، فهذا النوع من التفكير يقود إلى تعطيل التفكير النقدي. فهو يُغلق الباب أمام التساؤل، ويُكرّس الجمود السياسي، ويمنع تقديم أفكار جديدة يمكن أن تحل المشكلات بطرق مبتكرة.
أما الأمر الأخطر؛ فهو عندما يُستخدم التفكير الدائري كأداة للتلاعب. ففي الأنظمة السياسية التي تفتقر إلى الشفافية، تُستخدم هذه الحجج لتبرير الاستبداد، بحيث تبدو القرارات وكأنها لا تقبل النقاش. والنتيجة بلا شك؛ مجتمعات تعاني من غياب الحريات، وحكومات لا تُحاسَب، ونقاشات سياسية تدور في الفراغ.
ولعل السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو كيف يمكن تجاوز التفكير الدائري في السياسة؟
إن تجاوز التفكير الدائري يتطلب منا أولاً أن نُعيد التفكير في الطريقة التي نتلقى بها الخطاب السياسي. إذ علينا أن نسأل الأسئلة الصعبة، ونُطالب بإجابات واضحة مدعومة بأدلة حقيقية. كما أنه من الضرورة بمكان تعزيز ثقافة التفكير النقدي بين الأفراد. فلا يكفي أن نكون متلقين سلبيين للمعلومات؛ بل يجب أن نحلل وننتقد ونبحث عن الحقيقة بأنفسنا.
ويُعدّ الحوار المفتوح والشفاف أحد أفضل الوسائل لتجاوز هذا النمط. فعندما يكون هناك نقاش حقيقي، قائم على الحقائق والمنطق، يمكن أن تنكشف نقاط الضعف في الحجج الدائرية، وتُستبدل بأفكار أكثر وضوحًا ومصداقية.
وختامًا؛ إن التفكير الدائري في السياسة يشبه دوران العجلة في مكانها، حيث تبدو الحركة مستمرة، لكنها في الواقع لا تقودنا إلى أي مكان. وفي عالم يواجه تحديات كبرى، من التغير المناخي إلى الأزمات الاقتصادية والسياسية؛ لا يمكننا تحمل رفاهية الاعتماد على مثل هذه الحجج الفارغة. وعلينا أن نتجاوز هذه الدوائر المغلقة، ونسعى نحو تفكير نقدي ومفتوح يُمكّننا من بناء مجتمعات أكثر عدلاً واستقرارًا. فكل خطوة نحو الحقيقة هي خطوة نحو التقدم.