مقالات
أخر الأخبار

المجالي تكتب : الأب المكلوم .. “بناتنا ما بنامن في السجون”

22 الاعلامي – بقلم : ديما المجالي

في زقاق من أزقة الكرك، حيث تنحني الأزمنة احترامًا لعظمة القيم النبيلة، في اليوم الثالث عشر من شهر رمضان المبارك هناك أبٌ كركيٌّ يلفه الحزن، قلبه مثقلٌ بالفقد، لكنه ممتلئ بالإيمان، فقدَ فلذة كبده بحادثة دهسٍ مأساوية، خطأً لم يكن مقصودًا، لكنه كان كافيًا ليشطر قلبه نصفين.

كأي أب، كان يتمنى أن يرى ابنه شابًا يافعًا، يعبر دروب الحياة بثبات، يحقق أحلامه، ويكبر ليحمل اسم العائلة بكل فخر، ولكن القدر كان له رأي آخر، فأطفأ نور الابن، وترك الأب بين جدران الفجيعة، يُحاور حزنه في صمت.

في تلك اللحظة التي ينتظرها البعض للانتقام أو للقصاص، كان لهذا الأب رأي آخر، وقف أمام الحقيقة المرّة، لم ينظر بعين الانتقام، بل بعين الرحمة… قال كلماته التي سكنت القلوب قبل الآذان: “بناتنا ما بنامن في السجون.”

بهذه الكلمات، ضرب أروع الأمثلة في التسامح والنبل، قرر أن يطلق سراح الفتاة التي شاءت الأقدار أن تكون جزءًا من هذه الفاجعة، لم يكن ذلك ضعفًا، بل كان قوةً تفوق كل معاني العدالة الأرضية… كان أبًا، لا لابنه فقط، بل لكل أبناء وبنات الكرك.

لم يأتِ هذا التسامح من فراغ، بل من إرثٍ تربى عليه أهل الكرك، حيث تُبنى القيم على أساس الرحمة قبل العقوبة، وحيث تغلب المروءة على الغضب، الكرك، هذه الأرض التي عُرفت عبر التاريخ بأنها مهد الشهامة والنخوة، لم تكن يومًا موطنًا للأحقاد، بل كانت دارًا للتسامح والمروءة والكرم.

لطالما ضرب أهل الكرك أروع الأمثلة في الصفح والعفو، حيث لا تُقاس الرجولة بالقوة والانتقام، بل بالحكمة وكظم الغيظ، فقد اعتاد أهلها أن يكونوا يدًا تمتد للصلح قبل أن تمتد للعقاب، وأن تكون قلوبهم عامرة بالرحمة، حتى في أشد المواقف ألمًا.

في مجالسهم، يُحكى عن رجالٍ تنازلوا عن حقوقهم من أجل الصلح، عن شيوخٍ وقفوا في وجه الفتن، عن آباءٍ غلبوا العفو على الغضب، لأنهم يؤمنون أن المجد الحقيقي ليس في الأخذ، بل في العطاء، وليس في العقاب، بل في الصفح.

وهذا الأب لم يكن استثناءً، بل كان امتدادًا لهذا الإرث العظيم، فاختار أن يعلّم الجميع درسًا في الإنسانية، أن القلب الكبير لا يهزم، وأن التسامح هو الإرث الحقيقي الذي يُخلّد اسم الإنسان في الدنيا والآخرة.

رحم الله الفقيد، وألهم والده ( غازي الحباشنة ) الصبر، وجعل هذا الموقف نبراسًا لكل من يبحث عن معنى التسامح الحقيقي، في زمنٍ باتت فيه الرحمة عملةً نادرة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى