مقالات
أخر الأخبار

الدهيسات تكتب : صعود التّفاهة في العصر الرّقميّ: حينما يتصدّر الجهل وتُهَمَّشُ القِيَم

22 الاعلامي – بقلم : إسراء امضيان الدهيسات

في العقود الأخيرة، شهد العالم الرّقمي تحوّلاتٍ جَذريّةٍ غيّرت مفهوم المعرفة والتّأثير، وكانت المنصّات الرّقميّة في بداياتها وُعِدت بأن تكون ساحةً للفِكر، تُتيح للمبدعين والمفكرين نشر أفكارهم بحرية والوصول إلى أوسع جمهور ممكن، لكن مع مرور الوقت، تحوّل هذا الوعد إلى سراب، حيث أصبحت التفاهة والسّطحية هما السائدان، في ظلّ تنحي العقول المفكرة وتصدّر الجاهلين للمشهد.

حيث ساهمت التّكنولوجيا في منح الجميع فرصة التّعبير عن آرائهم، لكن مع غياب أي معايير للتمييز بين الفكر العميق والطّرح السّطحي، أفسح المجال أمام المحتوى التافه ليغزو المنصات، فبفضل الخوارزميات التي تروّج لما يحقق أكبر عدد من المشاهدات والتفاعلات، أصبح المحتوى القائم على الضّحك السّاذج، والإثارة الزائفة، والعناوين الجذّابة الفارغة، هو الأكثر انتشارًا، وبذلك، تمكن الجاهلون الذين لا يمتلكون أي قيمة فكرية حقيقية، من الوصول إلى أكبر عدد من المتابعين، بينما وجد المفكرون والمبدعون أنفسهم مُحاصرين في زوايا مُعتمة، حيث لا مكان للجودة أمام ذلك الضّجيج.

ممّا نتجَ عن ذلك تنحّي المُفكّرين والمُبدعين وخسارة للعقل الإنساني الذي يتمتّع بثقافة ومعرفة واسعتين، فعندما كان المفكرون والأدباء في الماضي يحتلّون مكانةً رفيعةً في المجتمع، إذْ كانوا منارات للعلم والفكر، يُلهمون الأجيال ويساهمون في تطور الحضارات، أمّا اليوم فقد أُجبر الكثير منهم على الانسحاب أو تقليل نشاطهم على المنصّات الرّقمية، بعدما أصبح الإقبال على المحتوى الجاد محدودًا؛ فالجهد الذي يتطلّبه إنتاجُ مقالٍ أو بحثٍ مُعًمّق لا يُقارن بمقطع فيديو تافه يجذب ملايين المشاهدات في ساعاتٍ قليلةٍ، هذا التّفاوت جعل كثيرًا من المُبدعين يُفضّلون الصَّمت على خوضِ معركةٍ خاسرةٍ في ساحةٍ لا تعترف بالقيمة بقدر ما تعترف بالتّرفيه الفارغ.

لا يمكن إنكار أنّ العالم الرّقميّ كان من المُفتَرض أن يكون فرصةً ذهبيةً لنشر المعرفة، لكنّه تحوّلَ إلى فخٍّ يُعزّز ثقافةَ الاستهلاك السّريع للمُحتوى التّافه، غير أنّ الأمل لا يزالُ موجودًا، فكما تمكّن الجاهلون من السّيطرة على المشهد، فإن أصحاب العقول يُمكنهم استعادة دورهم إذا تمكّنوا من التّكيّف مع قواعد اللّعبة الجديدة، دون المساس بجوهر رسالتهم، فقد يكون الحلّ في تقديم الأفكار العميقة بأساليب أكثر جذبًا، أو في بناء مجتمعاتٍ صغيرةٍ مُهتمّةٍ بالفِكر والمعرفة، بعيدًا عن ضجيج العامّة.

لقد أصبحَ امتلاء المنصّات الرّقمية بالمُحتوى السّاذج أمرًا واقعًا، لكنّه ليس قَدَرًا لا يُمكن تغييره، ولا يزال بإمكان المُفكّرين والمُبدعين إعادة التّوازن إلى هذه المساحة، شرط أن يجدوا طُرقًا جديدةً لإيصال رسائلهم دون التّخلي عن قيمتها، أما إن استمر الوضع كما هو، فقد نجد أنفسنا في عالم تحكمه التّفاهة، حيث يصبحُ التّفكير جريمة، والمعرفة عِبئًا، والعقل مُجرّد أداة مُهمَلة وتحت سيطرة الذّكاء الاصطناعيّ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى