مقالات
أخر الأخبار

الدكتور محمد ابو عمارة يكتب : شَــجــرة تَـــقــلَــع جــذورهــا جزء (1)

22 الاعلامي – بِقَلَم: د.محمد يوسف أَبو عمارة

قالَت إِحدى الأَشجار لجاراتها:

  • لِمَ نَحن موجودون هنا ، في هذه المنطِقَة الشحيحَة بالمياه؟! نَعيش مُعظَم أَيام السّنة بالعَطَش والحَر وإِزعاج الحَيوانات والإِنسان فهذا يتسلّق عليّ ويُرهق أَغصاني الضّعيفَة وذلك يكسّرني ليُشعِل نارًا مِن أَغصاني الضَعيفَة و الغالِيَة عليّ!
    لِمَ لا نَذهب لمنطقة أُخرى يتوفّر فيها الماء العَذب والجَو الرّطب فَنعيش بِرخاء واحترام دون أَن نَنتَظِر أَن يعطف عَلينا أَحد المارة فيسكب ما تَبقّى مَعه مِن ماء ليسقينا!
  • ولكنّنا وُلِدنا في هذه الأَرض مذ كنّا بِذارًا صَغيرَة كَبرنا مَعًا وأَلِفنا المنطقة وجوّها وأَرضها وسَمائها بَل وتعايشنا مَع تِلكَ الحَيوانات الجَميلة التي تُشعرنا بأَنّنا عَلى قَيدِ الحَياة فَما قيمَة أَن تَكون حَيّة دون أَن تَشعري بالحَياة! أَمّا الإِنسان فَهُوَ مُؤذٍ سِواء كُنّا هُنا أَو انتَقلنا إِلى أَي مَنطِقَة أُخرى!!
  • أَنا أَرفض الاستِسلام للواقِع وأَرفض التَّعايش مَع هذه الأَجواء القاسِيَة وأَطمَح لأَن أَنتَقِل لِمَنطِقَة أُخرى أُكمِل فيها ما تَبقّى لي مِن أَيّام، فَقَد سَمِعتُ بَعض الرّحالة يَتحدّثون عَن منطقة أُخرى غَنِيَّة بالمِياه وهِيَ قَريبَة مِن هُنا فَلِمَ لا نُغادِر جَميعًا ونَقطن بِقُرب النّهر الكَبير ذو المِياه العَذبة حَيثُ لا جوع ولا عَطَش فَما هِيَ إِلّا أَيّامٌ قَليلة مِن المَشي لِنَصِل لِمُبتغانا.
    نَصِل لِأَرضِ الخلود وأَرض الجَمال والمِياه… آه ما أَجمل ذلك تَخيّلي مَعي..
  • وهَل تَعتقدين أَنّ ذلك بالأَمر السَّهل؟!
  • كلّا، أَعرف أَنّه صَعب جِدًّا ولكن الهَدف المَرجو يَستحِق تِلكَ المُغامرة الخَطيرة!
  • أَنتِ بِحاجَة يا عَزيزتي أَن تُقطّعي جذورك وأَن تهجريها بِداية، ثُمَّ سَتكونين عُرضَة للمَوت في الطَّريق خاصّة وأَنّك تَسيرين بِلا هدَف واضِح المَعالِم ولِمَكان مَجهول وبَعدَ ذلك وإِن وَصَلتِ للمَكَان الذي تُريدين الوصول إِليه فَهَل سَتسمح لَكِ الأَشجار صاحِبَة الأَرض والمَكان بالنّزول بينها واحتِلال أَرضها والاستِفادَة من خَيراتها؟!
    أَنا أَقول أُطردي هذه الأَفكار الشيطانيّة مِن عَقلك واستمتعي بالحَياة هُنا في وَطنك وبين ذَوات جنسك مِن الأَشجار وتَمتّعي مَعنا بِحياتنا البَسيطة الهادِئَة.
  • إِنّها لَيسَت أَفكار شَيطانيّة بَل هُوَ الطّموح للبَحث عَن واقِع أَفضل، فَلِمَ نَرضى بالأَقل ما دامَ بإِمكاننا الحصول عَلى الأَفضل فَأَنا لا أَتخيّل أَن أُمضي ما تَبقّى مِن عُمري هُنا في هذا القَحط وتَحتَ ذلّ الإِنسان والحَيوان..
    لا أَحَد يَضمن ذلك ولكن أَلا تَعتقد أَنّ شَرف المُحاولَة يَكفي؟! أَولا تَستحق أَغصاننا تِلكَ النِّهايَة السَّعيدة في بِلادِ الأَحلام؟!
  • ما رأيك أَن نَسأَل حَكيمَة الأَشجار، فَلابُدَّ أَن لها رأي بالموضوع.
  • هيّا.. هيّا..
  • سَلام الله عَليك يا زَيتونة يا حَكيمَة الأَشجار.
  • وعَليكم السَّلام يا شُجيراتي الصَّغيرات..
  • نُريد أَن نَسأَلك عَن مَوضوع يشغل بالَنا كَثيرًا.
  • هَيّا تَفضّلا…
  • هذه الشَّجرة تَرغَب بالهِجرَة مِن هُنا والذّهاب لِتَسكُن بِجانِب النَّهر في تِلكَ المَنطِقَة حَيثُ الجَوّ المُعتَدِل والماء الوَفير.
  • التَّفكير بالتّطور حَقّ مَشروع يا صَغيرَتي ، وللأَسَف نَحنُ الأَشجار نَبحَث دَومًا عَمّا يَنقصنا ولا نتفكّر أَو نَستَمتِع بِما هُوَ مَوجود لَدَينا، لِذلك نَفقد لَذّة الاستمتاع بِما لَدينا في الوَقت الذي غالِبًا لا نَحصُل فيهِ أَيضًا عَلى ذلك الشيء الذي نَبحَث عَنه ونَعتقد بأَنّه يَنقصنا.
    تَرك الوَطن يا صَغيرتي سَهل ولكن بَعد تَركه سَتفقدين الكَثير.. الكَثير ، فالأَشجار بِلا أَوطان ما هِيَ إِلّا أَخشاب لا حَياة فيها مَصيرها إِلى المواقد..
    ومَن يَتخلّى عَن وَطنه لَن يَجِد وَطنًا آخر يَحتويه بَل سَتَتَخلّى عَنه الأَرض كُلّها..
  • ولكن ما ذَنبي أَن أَبقى بِمكان لا أُحبّه ولا يُحقِّق طموحاتي؟! بَل مَكان أَشعر فيه طيلة الوَقت بالظّلم والضيق وذَنبي أَنّ هذا هُوَ وَطَني!
  • لَيسَ المَكان الذي يُحَدِّد الطّموح أَو يحدّ منه إِنّما طَريقة التَّفكير بالأَشياء وتناولها وزاوية النَّظر لَها هِيَ مِن تُحَدِّد قبولنا لَها أَو رَفضنا إِيّاها.
    فإِذا ما فَكّرنا جَميعًا بِنَفسِ طَريقتك فَلِمَن سنترك وطننا؟! مَن سَيُطوّره؟! مَن سَيبنيه؟! مَن سَيُدافِع عَنه؟! يا صَغيرتي رُبَّما لا تُدركين معنى كَلامي ولكن عِندما أَقول وَطَن يَرتَجِف قَلبي وتَدمع عَيناي فالوَطن غالٍ عَلينا مَهما كانَ قاسِيًا ، وجَميل بِرُغمِ وعورة مَلامحه وشحّ أَمطاره، ولِماذا بَحثت فَقط عَن السّلبيّات؟! لِمَ لا تَنظري لَه مِن زاوِيَة أُخرى تَحمل لَكِ السّعادة فَفي الوَطَن الاستقرار والأَهل والأَصدِقاء والأَجواء التي أَلِفناها..
    هُناك أَشياء يا عَزيزتي لا نَستطيع التَّعبير عَنها، هُناك مَشاعِر ذِكريات، فَالحَياة لَيسَت مادة فَقَط والمادة لا تَصنَع السَّعادة لِوَحدِها، فَما قيمَة الأَشجار بِلا جذور وذِكريات وأَرض.. كَلمة وَطَن غالية وعَميقَة وأَثمن مِن كُلّ كنوز الأَرض.
  • سيّدتي الزّيتونة، هَل تَشعرين بالسّعادة الآن؟! ألا تندمين عَلى ما مَضى مِن عمرك في هذه البقعة مِن الأَرض؟! أَنا أَعتقِد بأَنّك تَتَحدّثين بهذه الطَّريقة لأَنّك قَد هَرِمت وفقدت الأَمل بالحَياة بَعدَ هذا العُمر الكَبير، أَمّا أَنا فَما زِلتُ في بِداية حَياتي التي لَن أقضيها مثلك هُنا..
  • سامحك الله يا صغيرتي، فأَنا مُتمسّكة بأَرضي مُنذ نعومة أَظافري فَقَد جُبلت على حُبّ الوَطَن واستمتعت بِكُل تَفاصيله وإِن كنت قَد نصحتك فذلك لمحبّتي لَك والقَرار قَرارك.
  • لَقَد أَخذتُ قَراري بِمغادرة هذا المَكان تاركة لَكم متعة الماضي وصعوبة الحاضر، سأهاجر باحثة عَن أَمل جَديد في مَكان جَديد، فأرضكم لا تَعنيني وذكرياتكم لا تمثّلني.. سأَقتلع جذوري، نَعم سأَقتلعها لأَنّني لَن أَعود.. سأهاجر بِلا عَودَة..
  • كثيرون هُم الأَبناء العاقّون، أَدعو لَك بالهداية وأطلب منكِ عدم نكران الجميل، فكما أَنّ هُناك أَبناء أَوفياء هُناك مَن هُم عَكس ذلك ولكن مِن باب عَدم النكران أَنصحك بعدم التّخلي عَن جذورك فأَيّ شَجرة بِلا جذور لا تَستَحِقّ الحَياة.
  • لا أُريد أَي جذور.. أَنا سأُهاجِر وأَبدأ رِحلتي بِجذور جَديدة
  • رُبّما لَن تَستطيعي إِنبات جذور جَديدة، فالجذور تَنبت مرّة واحدة فَقط، وإِن حاولتِ إِنباتها ستكونين مُجرّد خَشبة بِلا حَياة.
    كَم أَنا حَزينة عَليكِ يا صَغيرتي ولكن عزائي أَنّ هُناك مِن الأَشجار البارة مَن يَفني حياته ليخلق حَياة للأَشجار الأُخرى فَكما أَنّ هُناك خونة وعُملاء هُناك شُهداء، شُهداء يَروون تُراب الأَرض بِدمائهم الزّكيّة لتنبت أَبناء بارّين ومَشاريع شُهداء آخرين، إرحلي يا ابنتي وافسحي المَجال لغيرك مِن الأَشجار المُحِبّة للوطن والمنتمية لَه.. ولكن إِن عُدتِ قَد لا تَجدي لكِ مَكانًا فالوَطَن لَيسَ مَحطّة قِطار.. الوَطَن هُوَ المُقام، الوَطن هُوَ جَنّة الله في الأَرض مَهما قسي ومهما كانت أَجوائه أَو تضاريسه…
    الوَطَن هُوَ الروح … وما أَنتَ بِلا روح … وهَل يَستطيع أَي كائِن أَن يَحيا بِلا روح ؟!

جــزء(2)

  • أَنا أُؤمِن بأَنّ الوَطَن هُوَ المَكان الذي تَرتاح فيه وتَحترم فيه وتُحَقِّق ذاتك فيه، فالوَطَن يتعدّى مَفهوم الأَرض والجُغرافيا. لأَنّه فِكرَة تَعيش فينا ونعيشها، وهذه الفِكرَة عابرة للتضاريس فَلِمَ أَربط نَفسي بأَرض مشاكلها كَثيرة وصِراعاتها كَثيرة، لِمَ أَحيا لِأُدافِع عَن أَرض تُحاربني بَينما تَفتَح باقي الأَراضي يَديها لِتَستقبلني بِفَرَح وسَعادة.
  • لا أَدري مِن أَينَ أَتَت لَكِ هذه الأَفكار أَلَم تَسمع مَحمود درويش عِندَما قال:
    آه يا جرحي المكابر…
    وطني ليس حقيبه…
    وأنا لست مسافر…
    إنني العاشق .. و الأرض حبيبه…
  • أَيّ وَطَنٍ هذا؟! لِمَ لا أُسافِر وأَحمِل جنسيّة أَي دولة أُخرى تَحترمني وأُحقِّق بِها ذاتي؟! وتُصبِح تِلكَ الأَرض هِيَ وَطَني؟! لِمَ يُكتِب لِأَبنائي العَيش في هذه الأَرض المَليئَة بالصِّراع والحروب وضَنك العَيش؟! لِمَ لا أَسعى لِأَجِد لَهُم حَياة هانِئَة في بَلَد مُريح يَحترمهم ويحبّونه؟!
  • أَعتَقِد يا صَديقي أَنّكِ لا تُدرك مَعنى الوَطن، وإِذا أرَدتَ مَعرفة ذلك اسأل مَن فَقَد وطنه، صَدّقني إِنّه مُستَعِد ليدفع كُل ما يَملك بَل وأَن يَدفَع روحه لِيَعود لَه، اسأل أُولئك الذين قَضوا أَعمارهم بالبَحث عَن جِنسيّة هُنا أو هُناك لِماذا يَعودون في أَرذل أَعمارهم لأَوطانهم ولِمَ يَندمون لأَنّهم قَضوا أَعمارهم بَعيدون عَنها؟! هِيَ أَشياء لا تُحسَب بالرياضيات هِيَ أَشياء لا تُشترى بالمال، هِيَ أَشياء لا تُرى بَل تُحَس فالوَطَن يا عَزيزي جزء مِن التَّكوين النَّفسي لِجَميع المَخلوقات فحتّى الحَيوانات تَحِنّ لأَوطانِها.. فَما بالك بِنا نَحن بَنو البَشَر؟!
    ابحَث عَن أَي أَرض واعتبرها وَطنك ولكنّك في قرارة نَفسك تَعرف أَنّها لَيست كذلك وحتّى الأَرض الجَديدة لَن تَعترف بِك بَل سَترفضك وستحنّ لأَصحابها..

جــزء(3)

الشَّهيد: وعدناك وأوفينا الوَعد يا أُمّي، فَما نَحنُ بِلا وَطَن وما نَحنُ بَلاك، الإِنسان بِلا وَطَن يا أُمّي يَتيم لا ماضٍ لَه ولا حاضِر ولا مُستَقبَل، وعدناك أَلا يدنّس تُرابك أَحَد وبَذلنا كُل جهدنا وضَحّينا بأَرواحنا واعذرينا.. اعذرينا عَلى التَّقصير…
أَنتُم الصّادِقون الأَوفياء ، أَنتم الأَبناء ونِعمَ الأَبناء ولا تَحزنوا كَثيرًا يا أَبنائي على هؤلاء الشرذمة الذين يَدوسون تُرابي لأَنّهم شرذمة زائِلَة مَهما علت وكَم مِن شراذم أَمثالهم داسو أَرضي واعتقدو بأَنّي أَصبحت وَطنًا لَهم وأَنّهم احتلّوني لَم أَلبث أَن طَردتهم بأَيدي أَبنائي الأَبطال لذلك لا تَقلَقوا عَليّ فَأَنا منكم ولكم.. وطالما أَنتم مَن يُضحّي لأَجلي سأَبقى وَطنكم وَحدكم فَأَنا أُمّكم أَنتُم.. أَنتُم.. فَقَط.. وها أَنتُم تَعودون لِرَحمي لِأَلِد غَيركم أَبطالًا يَذودون عَن الحِمى يُحطمون شَوكة العَدوّ المُحتل ويطهّرون تُراب أَرضي..
أَهلاً بِكم في رَحمي، لتولدوا مِن جَديد فالشهيد لا يَموت وإِنّما يولد مِن جَديد، يولد كفكرة ويولد كقصة ويولد كَمشروع شَهيد جَديد.

الأرض: أَهلاً ، أَهلاً بأَبنائي الشّهداء، أَهلاً بِكُم عائدين مُنتَصرين سأَضعكم في قَلبي وأَضمكم بترابي سَتعودون لي لأَنّكم أَبنائي منّي وجدتم ولي رَجعتم، أَهلاً بِكُم وبدمائكم الزّكية التي زادتني قُوَّة ومناعة وأنفه…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى