آخر الأخبار

البوري يكتب:الرهن العقاري… عبودية عصرية بثوب التملك

{title}
22 الإعلامي   -

22 الاعلامي - بقلم: فادي البوري



في عصرنا الحديث، باتت البنوك والمؤسسات المالية تسوّق لمنتجاتها المالية، وعلى رأسها الرهن العقاري، كحل سحري لتحقيق حلم امتلاك “بيت العمر”، هذا الحلم الذي يُنظر إليه غالبًا كرمز للنجاح والاستقرار الاجتماعي ولكن وراء هذا البريق الزائف يكمن واقع مختلف تمامًا، واقع يعكس عبودية حديثة متنكرة في لباس التملك، حيث لا يملك المواطن حقًا بيته، بل يُجبر على العيش فيه كأنّه مستأجر مدى الحياة، مرهون بشروط مالية قاسية، ومعرّض دائمًا لخطر فقدان كل ما دفعه تحت ذريعة التأخر في السداد.



عندما يوقع الفرد عقد قرض عقاري، يظن أنه يخطو أولى خطوات الاستقلال السكني، إلا أن الحقيقة تكشف علاقة لا تساوي بينه وبين البنك، علاقة تستند إلى سلطة البنك في انتزاع “ملكه” في أي لحظة، فقط بسبب أي تعثر بسيط في تسديد الأقساط فبيت العمر لا يصبح حقًا مملوكًا له إلا بعد أن يسدد آخر قسط من القرض، وهذه العملية قد تمتد لعشرين أو ثلاثين سنة أو أكثر، وهو زمن طويل يحمل معه مخاطر عديدة.



المشكلة لا تكمن فقط في مدة القرض الطويلة، بل في هشاشة مفهوم “الملكية المؤجلة” ذاتها، التي تجعل المواطن يتحمل كامل أعباء الضرائب، الصيانة، التأمين، وكل تكاليف المنزل، بينما يظل البيت مرهونًا للجهة المقرضة. حتى ولو تعرّض لأي ظرف طارئ أدى إلى تأخير الدفع ولو لوقت قصير، يتحول المنزل من مصدر أمان واستقرار إلى غنيمة قانونية للبنك، الذي يحق له أن يستعيده ويبيعه ليبدأ دورة جديدة من المعاناة مع “حالم” آخر يتوقع أن يحقق حلمه في التملك.



الرهن العقاري في العديد من المجتمعات لم يعد مجرد وسيلة تمويل، بل أصبح أداة استعباد حديثة وناعمة، حيث يدفع الأفراد معظم دخولهم الشهرية في خدمة قروض قد تستمر لعقود، يعملون بلا توقف لتجنب فقدان “البيت الذي يظنونه ملكًا”، يعيشون تحت وطأة ضغط نفسي ومالي مستمر، مقيدين في خياراتهم العملية والشخصية، غير قادرين على تغيير مسارات عملهم أو تقليل نفقاتهم، أو حتى التنقل بحرية، لأن كل خطوة من شأنها أن تهدد استمرارهم في برنامج السداد.



هذا الواقع ليس دعوة لرفض نظام الرهن العقاري بشكل قاطع، فهو أحيانًا يكون الحل الوحيد المتاح للوصول إلى السكن ولكن يجب أن يكون دعوة صريحة لإعادة النظر في آليات عمل هذا النظام وهيكليته، وتقييم مدى عدالته وملاءمته للطبقات المتوسطة والمحتاجة فحين يتحول المنزل من ملاذ للراحة إلى مصدر دائم للقلق والخوف، ومن حلم جميل إلى عبء ثقيل يتراكم مع مرور السنين، فهذا يعني أن هناك خللاً عميقًا في الطريقة التي تُدار بها قضايا الإسكان وتمويله.



في النهاية، على المجتمعات أن تطرح السؤال الأكثر جوهرية هل نمتلك منازلنا حقًا، أم أننا عالقون في وهم التملك؟ وهل صار حلم السكن مُحمّلًا بقروض وسندات تأخذ من حرياتنا وتفرض قيودًا لا مفر منها، باسم الاستقرار؟ هذه الأسئلة تتطلب تفكيرًا جادًا وإصلاحات جذرية، كي لا يتحول حق السكن إلى عبودية عصرية مقنّنة.