آخر الأخبار

دكتور بزبز يكتب: بأيدينا نُعيد تشكيل الوطن… كيف يُلهب العمل التطوعي جذوة المجتمعات اللامنكَسِرة؟

{title}
22 الإعلامي   -

22 الاعلامي - د. محمد يوسف حسن بزبز

سفير جائزة الملكة رانيا العبدالله للتميز التربوي



في حضرة الوطن، لا تكفي العبارات ولا تفي الكلمات، وحده الفعل الصادق هو ما يُبقي جذوة النهضة مشتعلة. والعمل التطوّعي ليس مجرّد خيار نمارسه في فسحة الوقت، بل هو شُعلة العزيمة التي تضيء دروب الأمم في أحلك الظروف، ووقودٌ أخلاقيّ يعيد للإنسان مكانته كصانعٍ لا تابع، كمبادرٍ لا مُنتظر.



في عصرٍ تتسارع فيه التحديات وتضيق فيه الخيارات، ينهض العمل التطوعي بوصفه نداءً خفيًّا في قلب كل مواطن حرّ، يقول له: "قُم بدورك، فإنّ الوطن لا يُبنى بالتفرّج، بل بالانخراط."

إن المتطوّع لا يقدّم وقتًا أو جهدًا فقط، بل يُجسّد صورة الوطن الذي نحلم به: وطنٌ أياديه ممدودة، وقلوبه مفتوحة، وسواعده متكاتفة لا تعرف الانكسار.

في المدارس، حين ينزل الطالب إلى الشارع ليرفع ورقة عن الأرض، أو يطرق باب محتاج ليقدّم عونًا، فإنّه يتعلّم معنى الإنسانية أكثر مما تشرحها المناهج. هنا، في لحظة الفعل البسيط، يولد مواطن حقيقيّ: منضبط، متعاطف، مُبادر، ومُلتزم.

ولهذا تتحوّل المدارس، عبر برامج مثل "بصمة" والكشافة والمبادرات المجتمعية، من مؤسسات تعليمية إلى مصانع للقادة، تُغرس فيها قيمٌ لا تُمحى، وتُبنى فيها شخصيات قادرة على حمل راية الوطن بوعيٍ ومسؤولية.



لكن العمل التطوعي ليس حكرًا على الشباب ولا حصرًا على المبادرات الرسمية. كل فرد في المجتمع، مهما كانت مهنته أو عمره، قادر على أن يكون ركيزة في هذا البناء.

المعلم حين يبقى بعد الدوام ليشرح درسًا لطلابه، هو لا يعلّم فقط، بل يُعطي. الطبيب الذي يداوي فقيرًا دون مقابل، لا يمارس مهنته فقط، بل يُجسّد رحمةً تتجاوز التشخيص والعلاج. وحتى الأب أو الأم الذين يغرسون في أطفالهم بذور الخير، إنما يبنون جيلاً لا يحتاج إلى أن يُقال له "كن نافعًا"، لأنه تربّى على ذلك.



القوة الحقيقية للمجتمع لا تُقاس بعدد أبنيته أو حساباته البنكية، بل بما فيه من روابط إنسانية تصمد في وجه العواصف.

والتطوع، في جوهره، هو أقوى تلك الروابط: هو الذي يرمم شقوق الطبقات، ويعيد تعريف "الآخر" على أنه "نحن"، ويجعل من الفرد طاقة فاعلة في نسيجٍ لا يترك أحدًا خلفه.

وما أجمل التطوع حين يصبح خُلقًا لا مناسبة، وحين يُمارَس لا يُعلَن، وحين يكون امتدادًا لهويتنا لا طارئًا على سلوكنا.

عندها فقط نرتقي من مجرّد فعل تطوعي إلى ثقافة وطنية شاملة، تصبح فيها الخدمة قيمة عليا، والعطاء جزءًا من التنشئة، والانتماء ممارسةً يومية لا خطبة موسمية.

في وطنٍ كالأردن، بني أساسه على التكاتف واشتدّ عوده في ساحات العطاء، آن الأوان لنُعيد تعريف القوة الوطنية: ليست فقط في السلاح والاقتصاد، بل في الأخلاق والمسؤولية.

في الأيدي التي تمتد لا لتأخذ، بل لتعطي، وفي الأرواح التي تؤمن أن من يزرع خيرًا، لا بد أن يحصد وطنًا لا يُقهَر.

فلنزرع في ترابنا حبًّا، وفي عقولنا وعيًا، وفي قلوبنا التزامًا.

فالأوطان لا تنهض بالكلام، بل بتلك اللحظات الخفية التي يُقدّم فيها الإنسان نفسه من أجل الآخر.

وهناك فقط…يولد الوطن الذي لا ينكسر.