22 الاعلامي - يوسف الفقهاء
مع مرور السنين وتعاقب الأيام، يستحضر الفلسطيني في كل عام ذكرى تعيد فتح جراحه الكامنة، لتروي إحدى فصول مأساته الممتدة منذ النكبة الكبرى عام 1948 وضياع فلسطين التاريخية، مرورًا بما تجرعه قبلها من ويلات الاحتلال البريطاني، ثم خسارة ما تبقى من وطنه في حرب يونيو/حزيران 1967.
تأسس مخيم تل الزعتر في بيروت الشرقية عام 1949، عقب النكبة، لاستضافة اللاجئين من مدن الشمال الفلسطيني الذين هجرتهم العصابات الصهيونية بالقوة. كانت مساحته نحو كيلومتر مربع (56 دونمًا)، وأقيم على تخوم منطقة صناعية، فجمع بين جدرانه لاجئين فلسطينيين، وعمالًا لبنانيين، وآخرين من جنسيات متعددة، حتى بلغ عدد سكانه نحو 30 ألف نسمة.
الأوضاع قبل الحرب الأهلية
استقبل لبنان أكثر من 100 ألف لاجئ فلسطيني بعد النكبة، توزعوا على المدن والمخيمات، ومنها تل الزعتر، على أمل العودة القريبة إلى ديارهم. لاقى اللاجئون في البداية ترحيبًا شعبيًا، لكن الأوضاع تغيرت بعد اضطرابات 1958، حين وُضعت المخيمات تحت سلطة المخابرات العسكرية ("المكتب الثاني") بأوامر من الرئيس فؤاد شهاب.
فرضت السلطات قيودًا مشددة على حياة الفلسطينيين؛ إذ مُنعوا من التنقل بين المخيمات دون تصريح، وحُظر البناء أو إصلاح المنازل إلا بإجراءات معقدة، إضافة إلى حظر التجوال بعد العاشرة ليلًا. واستمر ذلك حتى توقيع اتفاق القاهرة عام 1969 بين منظمة التحرير الفلسطينية والجيش اللبناني، الذي منح الفلسطينيين حق إدارة شؤون مخيماتهم وشرعن العمل الفدائي ضد الاحتلال من الأراضي اللبنانية.
لكن الاتفاق أثار غضب القوى اليمينية المسيحية (حزب الكتائب، حراس الأرز، النمور، وغيرهم)، التي كثفت تسلحها وتدريبها، ليتحول لبنان إلى برميل بارود ينتظر شرارة الانفجار.
الشرارة والحصار
في 13 أبريل/نيسان 1975، فجرت حادثة "بوسطة عين الرمانة" الحرب الأهلية، عندما أطلق مسلحو الكتائب النار على حافلة تقل فلسطينيين من تل الزعتر، ما أسفر عن استشهاد 27 شخصًا وإصابة العشرات. تصاعدت المواجهات بين القوات الانعزالية من جهة، والفلسطينيين وحلفائهم من جهة أخرى، حتى أصبح تل الزعتر بحلول يناير/كانون الثاني 1976 الجيب الفلسطيني الوحيد خارج سيطرة الميليشيات في بيروت الشرقية.
فرضت القوات الانعزالية حصارًا قاسيًا على المخيم، ترافق مع قصف مدفعي متواصل وقطع المياه بنسف أنابيب الإمداد. لم يبق سوى بئر ارتوازية قرب المستشفى، تحولت محاولة الوصول إليها إلى رحلة موت بسبب قناصة الميليشيات، ليسقط العديد من النساء وهن يحاولن جلب الماء لأطفالهن، ويُعرفن لاحقًا بـ"شهيدات الماء".
أيام الجوع والعطش
مع طول الحصار نفدت المؤن، واعتمد الأهالي على المعلبات حتى انتهت، ليصبح العدس الغذاء الوحيد، وسط غياب شبه كامل للطحين والمواد الأساسية. ورغم التفوق العددي والتسليحي للمهاجمين، رفض أهالي المخيم الاستسلام، مفضلين المقاومة حتى الرمق الأخير.
المجزرة
في 22 يونيو/حزيران 1976، بدأ هجوم شامل تخلله قصف بأكثر من 8 آلاف قذيفة في يومه الأول، واستمر 52 يومًا، حتى سقط المخيم في 12 أغسطس/آب. ورغم اتفاق على إخراج النساء والأطفال بإشراف الصليب الأحمر، ارتكبت القوات الانعزالية مجازر مروعة: إعدامات ميدانية، اختطاف قسري، قتل الحوامل، والتنكيل بالجثث، في ظل صمت المجتمع الدولي.
أسفرت المجزرة عن استشهاد نحو 3 آلاف شخص وإصابة 6 آلاف، نصفهم تقريبًا قُتل خلال الحصار، والنصف الآخر أثناء المجزرة.
ما بعد السقوط
جُرف المخيم بالكامل ومنعت السلطات اللبنانية إعادة بنائه، فتوزع الناجون على مخيمات أخرى. وبقيت تل الزعتر محفورة في الذاكرة الفلسطينية كرمز للصمود، حيث واجه أهلها بأسلحة فردية وبأعداد قليلة قوة طاغية، متمسكين بالموت واقفين بدلًا من الاستسلام، وسطروا بدمائهم واحدة من أسمى ملاحم النضال الفلسطيني في الشتات.