22 الاعلامي - بقلم : الدكتورة ثروت المعاقبة
منذ أن وُجدت الحياة على هذه الأرض، وهي تسير وفق نظام دقيق وقوانين محكمة وضعها الخالق عزّ وجل، قوانين لا يختلّ ميزانها ولا يضطرب مسارها، وقد يظنّ الإنسان أنّ امتلاكه للعقل والقدرة على التفكير ميّزه عن سائر المخلوقات، وهذا صحيح من جانب، لكنّ الكائنات الأخرى تمتلك من الحكمة الفطرية والبديهة الغريزية ما يجعلها قادرة على البقاء، والتأقلم، والاستمرار جيلاً بعد جيل، دون الحاجة إلى المدارس أو التجارب الطويلة فبينما يتردّد الإنسان في اتخاذ قراراته، قد تجد طائراً صغيراً يهتدي إلى طريقه في الهجرة لمسافات آلاف الكيلومترات دون بوصلة، أو نرى نحلةً تعرف كيف تقيم خليتها بانتظام هندسي مبهر لم يبلغه عباقرة في العمارة والهندسة.
إن مانراه نراه في الطبيعة من دقة عجيبة ليس عبثاً، بل هو انعكاس للفطرة التي أودعها الله في المخلوقات، فهي لا تُجادل ولا تُكابر، بل تسير على ما فُطرت عليه من قوانين تحفظ حياتها وتضمن استمرارها، فالأسماك تدرك أنّ بقاءها في الماء، والنملة تفهم أنّ التعاون سبيلها في النجاة، والطيور تعرف متى تهاجر ومتى تعود بوقت دقيق ومحدد، دون أن تُخطئ موعدها أو تُضيّع وجهتها، وهذه الكائنات وإن كانت لا تملك عقل الإنسان ولا لغته، فإنها تسلك مسلكاً يليق بها، فتستمرّ في دورة الحياة بلا عناء ولا صراع داخلي.
على النقيض من ذلك، كثيراً ما يقف الإنسان رغم ما أوتي من عقل حائراً بين خياراته، ممزقاً بين رغباته وتناقضاته، مُنقاداً أحياناً لأهوائه أكثر من عقله، وقد يبتعد عن قوانين الفطرة التي فطره الله عليها، فيفقد الطمأنينة ويضيّع بوصلة البقاء الحقيقي، فما قيمة العقل إذا لم يُحسن الإنسان استخدامه؟ وما جدوى العلم إذا لم يضعه في خدمة الخير والعدل؟ هنا يظهر الفرق بين الكائنات التي قد لا تمتلك القدرة على التفكير المجرّد، لكنها لا تخالف القوانين الإلهية، وبين الإنسان الذي يملك العقل لكنه قد يتمرد على نواميس الحياة فيدفع ثمن ذلك.
عند تأملنا في الطبيعة سنتعلم درساً عظيماً أنّ البقاء لا يرتبط بالقوة وحدها ولا بالذكاء وحده، وإنما بالانسجام مع القوانين التي سنّها الخالق، فالديناصورات كانت أقوى الكائنات على وجه الأرض لكنها اندثرت، بينما بقيت الكائنات الصغيرة والضعيفة لأنها فهمت سرّ البقاء بالتكيّف، النحل، وهو كائن صغير، يُنتج عسلاً فيه شفاء للناس، ويعيش وفق نظام دقيق أذهل العلماء، والطيور، برغم هشاشة أجسادها، تبني أعشاشها في أماكن آمنة ومرتفعة وتُربّي صغارها بحنان بالغ، وكل ذلك يذكّرنا بأنّ الحكمة ليست حكراً على العقل المفكّر، بل هي أيضاً في الطاعة الفطرية للقوانين التي أودعها الخالق في كل حي.
ما أحوجنا نحن البشر إلى أن نتعلّم من هذه الكائنات، وأن ندرك أنّ الحياة تقوم على التوازن لا على الصراع فقط، وعلى التعاون لا على الأنانية وحدها، وأنّ سرّ البقاء لا يكمن في كثرة المعرفة، بل في صفاء الفطرة، وحُسن توظيف ما نملك من عقل في الطريق الصحيح، حينها فقط نستطيع أن نجمع بين ما ميّزنا الله به من عقل، وما نتعلمه من قوانين البقاء التي أودعها في سائر مخلوقاته.