22 الاعلامي - بقلم : د.ثروت المعاقبة
أصبحت التنمية المستدامة في عصرنا الراهن ضرورة ملحّة تفرضها التحديات المتسارعة التي تواجه العالم، فالعالم اليوم يواجه أزمات متشابكة من تغيّر مناخي، وفقر، وبطالة، وهجرة، ونقص في الموارد، ما يجعل من دعوة جلالة الملك إلى إعادة بناء الأنظمة بطريقة أكثر عدلًا ومراعاة للبيئة خريطة طريق للخروج من هذه الدائرة المعقدة، وهذه الرؤية تضع الإنسان والبيئة معًا في قلب معادلة التنمية، وتؤكد أن التوازن بينهما هو السبيل لضمان مستقبل أفضل.
تبدأ التنمية المستدامة من العدالة الاجتماعية، فهي ليست مجرد أهداف اقتصادية، بل مشروع حضاري يهدف إلى تحقيق التوازن بين الفئات المختلفة وضمان حقوق الجميع، فلا يمكن أن تتحقق تنمية حقيقية في ظل فقر يطوّق الملايين، ولا عدالة إذا بقيت الثروات مركّزة بيد قلة قليلة فيما تعاني الأغلبية من الحرمان، العدالة في توزيع الموارد، إلى جانب ضمان حقوق الأجيال القادمة، تمثل ركيزة أساسية لرؤية أكثر إنصافًا للإنسانية.
ومن ناحية أخرى، يشكل البعد البيئي حجر الأساس في أي مشروع تنموي ناجح، فالتغير المناخي لم يعد مجرد تحذير أكاديمي، بل أصبح واقعًا ملموسًا يظهر في الفيضانات والجفاف والحرائق التي تجتاح العالم، ولهذا، فإن التحول نحو الطاقة المتجددة، كالاعتماد على الشمس والرياح والمياه، لم يعد رفاهية بل ضرورة استراتيجية، كما أن إدارة الموارد الطبيعية كالأنهار والغابات والأراضي الزراعية بشكل رشيد، يضمن استمرارها كخيرات مشتركة للأجيال الحاضرة والمستقبلية.
ولا تنفصل التنمية المستدامة عن إعادة بناء الأنظمة الاقتصادية، فالتحول نحو اقتصاد أخضر صديق للبيئة يوفر فرص عمل جديدة ويعزز الاستقرار الاجتماعي، كما أن الابتكار والتكنولوجيا باتا وسيلتين محوريتين لتطوير حلول ذكية في مجالات النقل والطاقة والصحة والتعليم، وإلى جانب ذلك، أصبح من غير الممكن أن يظل دور الشركات مقتصرًا على تحقيق الأرباح فقط، بل بات مطلوبًا منها أن تتحمل مسؤوليتها المجتمعية تجاه البيئة والمجتمع.
في البعد السياسي، تبرز الحاجة إلى أنظمة قائمة على الحوكمة الرشيدة، حيث الشفافية ومحاربة الفساد والعدالة في توزيع الفرص، كما أن التحديات البيئية بطبيعتها عابرة للحدود، ما يجعل التعاون الدولي أمرًا لا غنى عنه. أما على المستوى الداخلي، فإن إشراك الشباب والمرأة في قيادة مسيرة التنمية المستدامة يضمن استثمار الطاقات الوطنية بأفضل صورة، ويعزز قيم الشمولية والتمكين.
لكن التنمية المستدامة لا تقتصر على الجانب المادي، بل تتطلب أيضًا تحولًا ثقافيًا وإنسانيًا، فالمجتمعات مطالبة بإعادة النظر في أنماط الاستهلاك المفرط، واعتماد أسلوب حياة أكثر اعتدالًا يحترم الموارد، كما أن التعليم المستدام يجب أن يكون أداة لترسيخ قيم المسؤولية البيئية والاجتماعية في عقول الأجيال. ومن الضروري أيضًا بناء وعي عالمي قائم على مفهوم أن الأرض بيت مشترك لكل البشر، وأن الحفاظ عليها مسؤولية جماعية.
أما الأردن، فقد سعى في ظل قيادة جلالة الملك عبدالله الثاني بن الحسين إلى تقديم نموذج واقعي في هذا المجال، من خلال مشاريع الطاقة المتجددة، والمبادرات البيئية، والسياسات التي تربط بين العدالة الاجتماعية والبعد البيئي، وبالرغم من التحديات المائية والمناخية الصعبة، يرفع الأردن شعار "التنمية المستدامة سبيل البقاء"، ليؤكد أن الإرادة السياسية الواعية قادرة على مواجهة أصعب التحديات وتحويلها إلى فرص.
التنمية قضية مصيرية تمسّ حياة كل إنسان على وجه الأرض، وإذا لم تصاغ الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية بطريقة أكثر عدلًا ووعيًا، فسيدفع الجميع الثمن عاجلًا أم آجلًا.
كلمات جلالة الملك تمثل دعوة صريحة للعالم لإعادة التفكير في أولوياته، وبناء نظام عالمي أكثر إنصافًا للإنسان وأكثر احترامًا للبيئة.