بقلم الدكتورة تهاني بشارات
حين تفتح صفحات العدد الحادي عشر من مجلة سرى الثقافية، تشعر وكأنك تدخل فضاءً مشرقاً ترفرف فيه أجنحة الكلمة، وتتناثر على هوامشه ألوان الفن، وتتجسد فيه ملامح الروح العربية وهي تبحث عن صوتها الحرّ، ودهشتها الأولى، وحلمها الممتد من المحيط إلى الخليج. ليس هذا العدد مجرد إصدار جديد، بل هو لوحة فسيفسائية مدهشة تكتمل قطعها بين الإبداع الأدبي، والقراءات النقدية، والقصائد النثرية، والقصص القصيرة، حتى ليبدو وكأن المجلة أرادت أن تكون بيتاً رحباً تتجاور فيه الأصوات والرؤى، وأن تكتب بلغة الجمال شهادة جديدة على قوة الثقافة العربية وخصوبتها.
منذ اللحظة الأولى، يجد القارئ نفسه مأخوذاً بكلمة العدد التي خطّها رئيس التحرير الأستاذ محمود خضر الشبول، حيث تتجلى الرؤية الواضحة لمجلة "سرى" في كونها مرآةً للإبداع العربي، وميداناً تتقاطع فيه التجارب وتتنوع فيه الأشكال، لتؤكد أن الثقافة ليست زينة للحياة، بل هي عمقها الضروري، وبوصلة لفهم الذات ومخاطبة العالم. الكلمة هنا ليست افتتاحية عابرة، بل بيان يفيض بالإيمان بأن المجلة مشروع ثقافي متجدد، يسعى ليمنح الكلمة والفن معاً فضاءً رحباً يتسع للجميع.
ويأتي إهداء العدد ليُضفي على المجلة لمسة وجدانية نادرة؛ فالإهداء هنا ليس مجرد سطور شكر، بل هو ومضة إنسانية تضيء الدرب للقارئ، وتمنحه لحظة تأمل صافية قبل أن يغوص في عالم النصوص. إنه إهداء يشي بروح الوفاء والجمال، يعلن منذ البداية أن هذا العدد يحمل نبضاً إنسانياً دافئاً.
أما التنوع الإبداعي في العدد، فهو بحد ذاته سيمفونية متناغمة. بين القصة القصيرة التي تكثّف العوالم وتلمح إلى الأعماق، والقصيدة النثرية التي تتنفس مثل نافذة مفتوحة على الحلم، والمقالة النقدية التي تحفر في النصوص بحثًا عن المعنى، والقراءات الأدبية التي ترسم للمتلقي خرائط جديدة للتفكير والتأمل. كل نص في هذا العدد يبدو كأنه خيط مضيء في نسيج كبير، وحين تتجاور النصوص يكتمل القماش، ليغدو العدد لوحة حيّة من الأدب والفكر والفن.
وتظل الفقرات الثابتة في المجلة أعمدة متينة تضيء صفحاتها:
في "ضيف العدد" نرافق تجربة مبدع ونستمع إلى صوته الإنساني العميق.
وفي "سيرة مبدع" نقترب من ملامح فنانة أضاءت طريقها بإصرار وعطاء، لتتحول سيرتها إلى درس في الإلهام.
أما فقرة "مكان وأثر" فتمسك بيد القارئ وتفتح له نافذة على برج القاهرة، حيث يتقاطع المعمار مع الذاكرة، ويصبح المكان رمزاً للهوية والانتماء.
وفي "فنان وأثر" نقف أمام تجربة رائدة للفنان العالمي كلود مونيه، لنستعيد أثره الذي لم يزل حاضراً في تاريخ الفن التشكيلي الحديث.
وأخيرًا، تأتينا فقرة "عصير الأدب" كحقل من زهور النصوص، تستعرض أبرز الإصدارات الأدبية الحديثة، لتمنح القارئ زاداً فكرياً ومعرفياً متجدداً.
ولا يمكن الحديث عن هذا العدد دون التوقف أمام البعد الجمالي البصري الذي صاغته أنامل الفنانة التشكيلية إيمان السعودي. لقد أبدعت في تصميم العدد وإخراجه، فجعلت كل صفحة لوحة متناسقة تنبض بالألوان والأناقة، كأنها جسدٌ للكلمة أو روحٌ موازية للنص. بهذا التزاوج بين الكلمة والصورة، يتجلى جمال "سرى" كمنصة لا تعنى بالنصوص فقط، بل تحتفي بكل تفاصيل الجمال.
إن العدد الحادي عشر من مجلة "سرى" ليس مجرد أوراق تُقرأ ثم تُطوى، بل هو رحلة متكاملة: رحلة في جماليات النصوص، ورحلة في عمق الفكر، ورحلة في دهشة الفن. هو بمثابة بيت ثقافي حيّ، يفتح أبوابه أمام القارئ ليجد نفسه جزءاً من حوار ممتد مع الإبداع العربي بكل أطيافه.
وها هي "سرى" تثبت مرة أخرى أنها أكثر من مجلة؛ إنها نافذة على الأمل، ومنبر للجمال، وفضاء يليق بالإنسان العربي الحالم والمتطلع إلى غدٍ أفضل. وما العدد الحادي عشر إلا تأكيد على أن هذه المجلة ستظل تحتفظ بقوتها، وتزداد تميزاً مع كل إصدار جديد، لأنها تنبع من إيمان صادق بأن الثقافة هي المرآة الأجمل التي يرى فيها الإنسان ذاته، ويخاطب من خلالها العالم.