بقلم : أ.د. محمد الفرجات
يعاني الأردنيون يوميًا من مشهدٍ متكرر بات يشكل جزءًا سلبيا وقاتلا من روتين حياتهم: شوارع مكتظة، تدافع بين السيارات، تأخير عن العمل، توتر وضغوط نفسية، ومشاحنات ومشاجرات عند الإشارات وقبلها، واختناق من غازات العوادم التي تملأ الجو منذ الصباح الباكر وحتى المساء.
أزمة خانقة، لكنها ليست قدَرًا، بل نتيجة تراكمات طويلة من غياب التخطيط والرؤية الاستراتيجية في قطاع النقل العام.
ازدحام يبدأ من الساعة السابعة صباحًا... لأن الكل يجب أن يكون بمكانه من مدرسة وموقع عمل وجامعة وكلية ومراجعين تمام الساعة 8:00 صباحا.
تبدأ الحكاية من الساعة السابعة صباحًا، حين تبدأ الحركة لتحقيق الهدف نفسه وهو الوصول على الساعة الثامنة صباحا:
طلاب المدارس والجامعات، وموظفو القطاعين العام والخاص، والعمال وسائقو الشحن والتوزيع والمراجعين لمختلف المؤسسات... الكل في الشارع في الوقت ذاته، متجهين في الاتجاه ذاته لأن الدوام يبدأ تمام الساعة الثامنة صباحا.
لقد أصبح هذا التوقيت رمزًا للفوضى اليومية، حيث تتكدس عشرات آلاف المركبات في تقاطعات المدن بكل المحافظات، وتتعطل مصالح الناس، وتتحول الطريق إلى مساحة ضغطٍ نفسيٍ وبدنيٍ للجميع.
سيارة لكل شخص... وغياب شبه تام للنقل الجماعي:
مع غياب وسائط النقل الجماعي الحديثة والمنظمة، أصبحت السيارة الخاصة الحل الوحيد أمام المواطن.
الأب يوصل أبناءه بسيارته الخاصة، ثم يتوجه إلى عمله، والأم بسيارتها تنقل الأبناء إلى مدارسهم، والموظف بسيارته، والمدرس، والطبيب، والمهندس، والطالب... حتى بات المشهد أقرب إلى طوفانٍ من المركبات.
والسبب؟
انعدام الثقة بالنقل العام القائم.
فالباصات الصغيرة تفتقر إلى المواعيد الدقيقة، والمواقف عشوائية وغير مريحة، وسلوك السائقين لا يخضع لرقابة حقيقية، والانضباط غائب، والجدولة الزمنية غير موجودة.
أما المؤسسات والشركات، فإن أكثر من ٩٨٪ منها لا توفر وسائل نقل لموظفيها، تاركة الجميع يتنقل بسيارته الخاصة، لتتحول الشوارع إلى بحر من الحديد والدخان.
غياب الرؤية التنظيمية:
تتعامل الجهات الرسمية – كإدارة السير وهيئة تنظيم قطاع النقل البري – مع الأعراض لا مع الأسباب.
فبدلًا من معالجة جذر المشكلة، يُكتفى بتنظيم السير مؤقتًا أو فرض المخالفات، دون إصلاح منظومة النقل ذاتها.
أما الحكومات المتعاقبة فلم تنجح حتى الآن في دمج شركات النقل الصغيرة ضمن شركات وطنية كبرى قادرة على تنظيم الخطوط، وضبط المواعيد، وتقديم خدمة تحترم الوقت والكرامة الإنسانية.
آثار تتجاوز الازدحام:
أزمة النقل ليست فقط أزمة مرور، بل أزمة وطنية متعددة الأبعاد:
نفسياً واجتماعياً: التوتر اليومي الناتج عن الزحام يولّد العصبية والمشاحنات ويؤثر على العلاقات الأسرية والاجتماعية.
اقتصادياً: آلاف ساعات العمل تُهدر يوميًا، وخسائر الوقود والصيانة تتضاعف، والإنتاجية تتراجع.
بيئياً وصحياً: ازدياد انبعاثات غازات العوادم وثاني أكسيد الكربون، وتلوث الهواء، وارتفاع أمراض الجهاز التنفسي.
حضرياً: تشوه بصري وازدحام خانق وفوضى في مداخل المدن ومخارجها.
حلول ممكنة... وليست مستحيلة:
أولًا: إعادة هيكلة قطاع النقل العام
لا بد من إصلاح جذري وشامل يدمج شركات النقل الصغيرة ضمن شركة وطنية كبرى بإدارة مركزية تعتمد على التكنولوجيا الحديثة، ونظام تتبع إلكتروني (GPS) وتطبيق موحد يتيح معرفة مواعيد الانطلاق والوصول والدفع الإلكتروني.
كما يجب إعادة تخطيط خطوط النقل وربطها بمحطات مركزية منظمة ومجهزة ومظللة وآمنة.
ثانيًا: تطوير وسائل النقل الحديثة
يجب أن تنتقل الحكومة من مرحلة “النوايا” إلى مرحلة التنفيذ الفعلي عبر:
توسيع مشروع الباص السريع (BRT) داخل المدن وربطه بالمحافظات.
تأسيس شبكة قطارات كهربائية خفيفة تربط عمان بالزرقاء وإربد والعقبة على مراحل، بشراكة مع القطاع الخاص عبر نظام (BOT).
إدخال الحافلات الكهربائية والهجينة لتقليل الانبعاثات وتعزيز الاستدامة.
ثالثًا: إعادة تنظيم أوقات الدوام:
أحد أسرع الحلول وأقلها كلفة هو توزيع ساعات الدوام على مراحل:
مثال قابل للتعديل:
المدارس بين 7:00 – 7:30
الجامعات بين 8:00 – 8:30
القطاع العام بين 8:30 – 9:00
القطاع الخاص بين 9:00 – 9:30
هذا وحده يمكن أن يقلل الضغط المروري بنسبة تصل إلى 40% دون إنفاق فلس واحد.
رابعًا: مسؤولية المؤسسات والشركات:
يجب أن تُلزم التشريعات الشركات الكبرى والجامعات والمؤسسات العامة بتأمين وسائط نقل لموظفيها وطلبتها، على أن تُمنح حوافز ضريبية للمؤسسات التي تعتمد النقل الجماعي، دعمًا لثقافة العمل الجماعي وتخفيف الضغط على الشوارع.
خامسًا: التوعية والتغيير الثقافي:
الإصلاح لا يكتمل دون وعي مجتمعي يدرك أهمية النقل الجماعي في حماية البيئة وتقليل التوتر وتحسين جودة الحياة.
فمن الضروري أن تُطلق حملات وطنية توعوية في المدارس والجامعات والإعلام لتغيير ثقافة "السيارة لكل شخص"، وتشجيع الناس على المشاركة في النقل العام.
سادسًا: مجلس وطني للنقل الحضري:
ينبغي إنشاء مجلس وطني للنقل الحضري يضم وزارات النقل والداخلية والبلديات وهيئة تنظيم النقل البري والقطاع الخاص ومراكز البحث والجامعات، لتوحيد الجهود ووضع خطة وطنية تمتد لعشر سنوات، تضمن تنفيذ المشاريع، لا الاكتفاء بالدراسات الورقية.
نحو أردنٍ أكثر حضارية واستدامة:
إن أزمة النقل ليست معركة ضد الازدحام فحسب، بل هي معركة من أجل وقت المواطن وكرامته وصحته واقتصاده.
فالدول التي سبقتنا لم تحل المشكلة بالصدفة، بل بالتخطيط والجرأة في التنفيذ، وبإيمانٍ أن النقل الجماعي هو أساس الحياة الحضرية الحديثة.
لقد آن الأوان لأن يتحرك الأردن نحو نقلٍ جماعي ذكي، منظم، نظيف، وآمن، فحل الأزمة لا يحتاج معجزات، بل قرارًا حازمًا، وإرادة سياسية وإدارية لا تهاب التغيير.