بقلم : المعلمة نهاية بدري بدور
خلال تجوالي في ساحة المدرسة أثناء مناوبتي الأسبوعية، كثيرًا ما أرى صناديقَ مُقفلةً بإحكام، بمختلف الأحجام. بعضها محشوٌّ بوجباتٍ غذائية كسلطة المعكرونة وورق العنب، وعلى زاويةٍ أخرى البلاك بيري وقطع الفراولة والدونات، وبعض المكسرات الصحية المملَّحة وغير المملَّحة.
تجلسُ الطالبة فوق وجبتها وكأنها في مطعمٍ فاخر، تُسندُ ظهرها إلى سور المدرسة، وتبدأ بممارسة دور الطالبة المُرفَّهة التي لا تُشبه الطالبات الأخريات، أولئك اللواتي يتقاتلن على طابور العصير والشيبس وما يجود به المقصف المدرسي!
وعلى النقيض، طالبةٌ تُمسك بإحكام بقطعة خبزٍ تقطرُ زيتًا وزعترًا، وحبّة من الخيار، تقضمها بلطفٍ حتى تبقى معها لآخر لقمة، فلا تقفُ اللقمة في حلقها. وهناك، في زاويةٍ بعيدة، تجلسُ فتاةٌ يبدو عليها الجوع والتعب، وحين سألتُها: “ألم تشتري بعد؟” ردّتْ ببؤس: “لا أحمل المصروف اليوم…”
كلُّ هذا التفاوت تراه في مؤسسةٍ حكوميةٍ بسيطة، كمدرسةٍ معظم من فيها أبناءُ عمومةٍ وجيران.
في يوم الخميس الماضي جلستُ بجانب عمود المظلّة أثناء المناوبة، ولفت نظري فتاةٌ تقوم بحشو قطعة الخبز بفتات الشيبس.
فقلتُ لها ممازحة:
– أين اللانش بوكس يا ملاك؟
فردّت بضحكةٍ مدوّية:
– لا أحب أن أقلّد أحدًا يا مس!
فسألتها: كيف؟
قالت لي: أتعلمين؟ كل من تحمل لانش بوكس هنا، تحمله من باب التقليد، يقلدن ما يشاهدنه على السوشيال ميديا! أتشاهدين تلك الطالبة؟
وأشارت بأصبعها نحو طالبةٍ تجلس تحت المظلّة: تلك الفتاة لا يملك والدها قوت يومه، ومع ذلك تُجبره كلَّ ليلةٍ، وهو عائدٌ من عمله، أن يُحضر لها ما لذّ وطاب، وإنْ رفض، تهدّده بعدم الذهاب إلى المدرسة!!
يا مس، نحن جيل يبحث عن هويته، نُبدع في التقليد العشوائي الفوضوي، بلا حسٍّ بالمسؤولية.
كانت تتحدث وذاكرتي تُبحر بي نحو طفولتي، وأنا قابضةٌ على مصروفي المدرسي كمن يقبضُ على مقبض سيفه، أشتري بقروشٍ قليلة، وأعود إلى البيت لأتناول بقايا صحنٍ من الحمص، وإن لم يُحالفني الحظ، أقوم بتقطيع الخبز في صحنٍ عميق، وأضيف له الشاي وملعقةً من السمن. وكنتُ راضيةً وسعيدة، لم أفكّر يومًا بالتمرّد أو العصيان، ولم أسمح لنفسي بالمقارنة!
كلُّ ما كان يُعطيني إياه أبي كان ثمينًا، وكلُّ ما كانت تطبخه أمي كان لذيذًا.
وهُنا قاطعتني ملاك بسؤالها:
– مس، ألا تأخذين راتبًا؟
قلتُ: نعم، ولمَ تسألين؟
فردّت بمكر:
– تستطعين شراء لانش بوكس وملأه بما لذّ وطاب!
أمسكتُ جرس المدرسة المعدني، هززتُه بقوّة،
وقلتُ لها ضاحكة:
– وأنا يا ملاك الماكرة، مثلكِ، لا أحب أن أقلّد أحدًا…!