بقلم : أ.د. محمد الفرجات
منذ السابع من تشرين الأول 2023، كرّس جلالة الملك عبد الله الثاني ما يزيد عن ٩٠٪ من وقته وجهوده واتصالاته الدبلوماسية والسياسية في مواجهة واحدة من أعقد وأقسى الأزمات التي مرّت بها المنطقة: الحرب في غزة. فبين مساعيه الحثيثة لوقف آلة الحرب وإنقاذ المدنيين، وتوجيهاته المتواصلة لإدخال المساعدات الغذائية والطبية للأشقاء، كان جلالته يوازن في الوقت ذاته بين الواجب القومي والهمّ الوطني، محافظاً على استقرار الأردن وتجنيبه تداعيات اقتصادية وجيوسياسية خطيرة كادت أن تمسّ أمنه.
لقد تضررت قطاعات واسعة من الاقتصاد الأردني جراء الحرب، وعلى رأسها السياحة، التي تمثل شرياناً مهماً للناتج المحلي وفرص العمل. إلا أن الإدارة الملكية الرشيدة استطاعت، كما فعلت في أزمة كورونا سابقاً، أن تمتص الصدمة وأن تُبقي البلاد متماسكة وآمنة رغم اضطراب الإقليم.
فكما قاد الملك إدارة وطنية ناجحة لجائحة كورونا في حينها، تزامناً مع إطلاق مسار الإصلاح السياسي والاقتصادي والإداري عام 2021، فقد واصل النهج ذاته في إدارة هذه المرحلة الحرجة، واضعاً مصلحة المواطن الأردني في صلب القرار.
غير أن الفترة الممتدة من بداية حرب غزة حتى اليوم كشفت بدورها عن تحديات متفاقمة على الساحة الداخلية، من شح مائي وتغير مناخي واضح، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، وهي تحديات لم تعد قابلة للتأجيل أو المعالجة بالحلول التقليدية.
واليوم، ومع توقف الحرب، نتطلع جميعاً أن تنعم غزة وأهلها بالأمن والاستقرار، وأن تعود الحياة إلى مدارسها وجامعاتها وشوارعها كما كانت... بل وأفضل.
أما في الداخل، فإن المرحلة المقبلة، وبخاصة عام 2026، تمثل منعطفاً حاسماً، إذ يعني هذا العام لجلالة الملك وللحكومة، برئاسة الدكتور جعفر حسان، أن يكون عام الإنجاز والتحول النوعي، نحو مشاريع إنتاجية كبرى تعالج جذور الأزمات الثلاث: العطش، والفقر، والبطالة.
ولقد حان الوقت لتنفيذ ما نادى به الأردنيون الشرفاء، وما طرحناه مراراً في اللقاءات مع جلالة الملك ومع دولة د. حسان، وما وثقناه في مقالات وورش عمل ومؤتمرات ومنتديات فكرية، أبرزها منتدى النهضة ومنتدى الابتكار والتنمية، حيث لم نكتفِ بالرؤى، بل قدّمنا نماذج واقعية ومصادر تمويل واضحة لمشاريع وطنية كبرى قادرة على تحريك عجلة الاقتصاد وتحقيق نقلة نوعية.
ومن أبرز هذه المشاريع والرؤى الوطنية التي نؤمن بقدرتها على تحقيق أثر ملموس:
1. مدينة المغتربين الذكية: نموذج وطني لاستقطاب استثمارات الأردنيين في الخارج، تجمع بين السكن العصري والفرص الإنتاجية، وتعمل بطاقة خضراء وتكنولوجيا متقدمة.
2. مدينة وعد الشرق لتعدين وتصنيع فوسفات وغاز الرويشد: مشروع صناعي واعد في الشرق الأردني يخلق فرص عمل كبرى ويحوّل الثروات الطبيعية إلى قيمة مضافة وطنية.
3. قرية ميلاتونين السياحية الاستشفائية شرق المفرق: مشروع بيئي فريد يربط بين السياحة العلاجية والطاقة الشمسية، ويستفيد من مناخ المنطقة وجيولوجيتها.
4. القرى الإنتاجية في البوادي الأردنية: نحو تمكين حقيقي للمجتمعات الريفية عبر إنتاج محلي زراعي وصناعي صغير ومشاريع تشغيلية مضمونة التسويق.
5. تحويل مشروع المدينة الجديدة إلى شركة مساهمة عامة: رؤية جريئة تعتمد على مبيع الأراضي كأسهم، بالشراكة مع صندوق استثمار الضمان الاجتماعي، لتكون نموذجاً مستداماً للتمويل الذاتي الوطني.
6. صندوق الاستثمار الوطني: لتجميع المدخرات الوطنية والمغتربين وتمويل المشاريع الكبرى دون الاعتماد على القروض الخارجية.
7. مبادلة مشاريع خضراء بيئية ومناخية مع الديون الخارجية: نموذج تمويلي مبتكر يسمح بإطفاء جزء من الديون مقابل تنفيذ مشاريع مستدامة تفيد الأردن والعالم.
8. مبادرة إنعاش الاقتصاد الوطني: حزمة سياسات مالية وتشريعية ومجتمعية لإعادة الثقة وتحريك الطلب المحلي وفتح أسواق تشغيل جديدة.
9. تنمية المحافظات عبر مجالس تنموية متخصصة: نموذج حوكمة محلي جديد، يمنح المحافظات استقلالية تنموية واقعية ويحوّلها إلى مراكز إنتاج متكاملة.
10. فلسفة جديدة للبحث العلمي والتفرغ الأكاديمي في الجامعات الأردنية: لربط البحث العلمي بالقطاعات الإنتاجية والخدمية وتشجيع الابتكار التطبيقي في مجالات الزراعة والمياه والطاقة والسياحة.
11. مدن سياحية جديدة في العقبة: تطوير مصاطب على الجرانيت شرق الخليج، تمثل مقاصد سياحية جديدة تدمج بين الجمال الطبيعي والتجارب التفاعلية المستدامة.
12. قرية تتن شرق العقبة: مشروع مناخي بيئي وسياحي ضخم يُعد من أبرز المبادرات النوعية في الجنوب الأردني، يعكس التوازن بين التنمية والبيئة.
13. مشاريع سياحية مبتكرة في البترا: مثل "الكبسولة التراثية الرقمية"، التي تقدم تجربة تفاعلية فريدة للزائر، تجمع بين التراث والذكاء الاصطناعي.
إن العام 2026 ليس مجرد رقم في التقويم، بل فرصة وطنية تاريخية لاستثمار كل الجهود الملكية والطاقات الأردنية نحو مرحلة الإنتاج الوطني الذكي والتمكين الذاتي.
لقد آن الأوان للانتقال من التخطيط إلى التنفيذ، ومن الرؤية إلى الواقع، بروح الفريق الواحد الذي يليق بالأردن وقيادته وشعبه.
فما بعد حرب غزة، وما بعد كورونا، يجب أن يكون عنوان المرحلة:
"الأردن ينتج... الأردن ينهض."