×
آخر الأخبار

اسم الكاتب : الدكتور محمد الفرجات

الفرجات يكتب : البصمة الكربونية الشخصية هل ستصبح بند سيرة ذاتية؟

{title}
22 الإعلامي   -

بقلم :  أ.د. محمد الفرجات

في عالم تتسارع فيه وتيرة التغير المناخي، وتزداد فيه الكوارث البيئية التي تهدد الأمن المائي والغذائي والطاقة والمجتمعات، لم يعد الحديث عن حماية البيئة ترفًا فكريًا أو شعارات خضراء تُرفع في المؤتمرات. بل أصبح التكيف مع الواقع البيئي الجديد واجبًا وطنيًا وأخلاقيًا ومسؤولية فردية ومؤسسية.

ومن هذا المنطلق، يبرز مقترح جريء ومبتكر: أن تصبح “البصمة الكربونية الشخصية” بندًا في السيرة الذاتية، وشرطًا من شروط التعيين والترقية والحوافز المالية في المؤسسات العامة والخاصة.

أولًا: ما المقصود بالبصمة الكربونية الشخصية

البصمة الكربونية هي مقدار انبعاثات غازات الدفيئة التي يتسبب بها الفرد من خلال أنشطته اليومية: استهلاكه للطاقة، تنقله، طعامه، استخدامه للمياه والورق والملابس، وحتى سلوكه الرقمي على الإنترنت.
وعندما نحول هذا المفهوم من قياس بيئي إلى معيار سلوكي ومهني، فإننا ندخل إلى مرحلة جديدة من الوعي البيئي المؤسسي، يكون فيها كل موظف جزءًا من منظومة التحول الأخضر، لا متلقيًا للسياسات فقط.

ثانيًا: من السيرة الذاتية التقليدية إلى السيرة البيئية

تتضمن السير الذاتية عادة المؤهلات العلمية، الخبرات، المهارات، والدورات. ولكن في المستقبل القريب، يجب أن نرى بندًا جديدًا بعنوان:
"بصمتي الكربونية الشخصية ومبادراتي في الاستدامة."

فكما يُقيّم المتقدم لوظيفة بناءً على قدراته التقنية أو التواصلية، يجب أن يُقيَّم أيضًا بناءً على وعيه البيئي ومسؤوليته في الحد من الانبعاثات.
هل يستخدم وسائل النقل العام؟
هل يقلل من استهلاك الورق في عمله؟
هل يفصل النفايات أو يشارك في أنشطة تطوعية بيئية؟
هل يستهلك الماء والكهرباء بعقلانية؟
هذه المؤشرات البسيطة قد تصبح قريبًا معايير تقييم عملية وموثوقة في بناء اقتصاد أخضر.

ثالثًا: ربط الحوافز المالية بالبصمة الكربونية

عندما تربط المؤسسات الحوافز والمكافآت بتقليل الانبعاثات الشخصية والمكتبية، فإنها تنقل ثقافة الاستدامة من “الخطاب” إلى “الممارسة”.

فبدلًا من مكافأة الأداء الكمي فقط، يمكن إدخال عنصر “الوعي البيئي” في معادلة الحوافز، كأن يحصل الموظف على نقاط إضافية في تقييم الأداء السنوي إذا خفّض بصمته الكربونية بنسبة محددة، أو شارك في مبادرات خضراء داخل المؤسسة.

هذه الخطوة لا تعزز فقط ثقافة الالتزام البيئي، بل توفر على المؤسسات كلف الطاقة والورق والنقل، وتفتح باب المنافسة الإيجابية بين العاملين.

رابعًا: التعيين الأخضر – من الوعي إلى السلوك

إذا أرادت الوزارات والشركات بناء مؤسسات ذكية ومستدامة، فعليها أن تختار موظفيها ليس فقط بناءً على الكفاءة الأكاديمية، بل أيضًا بناءً على الوعي البيئي والمسؤولية المناخية.
فالشخص الذي يحترم البيئة في حياته اليومية، هو ذاته الذي سيحافظ على موارد المؤسسة، ويقترح حلولًا ابتكارية لتقليل الهدر والانبعاثات.

يمكن أن تُطلب في طلبات التوظيف وثيقة “تقييم البصمة الكربونية الشخصية”، تُصدرها جهة معتمدة تقيس نمط استهلاك الفرد، وتقدم توصيات لتقليل أثره البيئي.

ومع الوقت، تصبح هذه الوثيقة شبيهة بشهادة “حسن السلوك البيئي”، يُستند إليها في التعيين والترقية.

خامسًا: أثر المقترح على الاقتصاد والمجتمع

اعتماد هذا المفهوم في سوق العمل له آثار إيجابية متعددة:

1. اقتصاديًا: تقليل استهلاك الموارد والطاقة داخل المؤسسات، مما يخفض النفقات التشغيلية.
2. اجتماعيًا: نشر ثقافة المسؤولية البيئية بين الأفراد والأسر، وربط قيم المواطنة بالحفاظ على البيئة.
3. تعليميًا: دفع الجامعات والمدارس لإدخال مفاهيم البصمة الكربونية في المناهج الدراسية كجزء من التربية الوطنية.
4. سياسيًا: دعم التزامات الأردن في اتفاق باريس للمناخ، وتعزيز صورته كدولة سباقة في التحول الأخضر والحوكمة البيئية.

سادسًا: كيف نبدأ؟
لتحقيق هذا المقترح عمليًا، يمكن إطلاق خطة وطنية من خمس مراحل:
1. التوعية: نشر المفهوم بين الطلبة والموظفين والمجتمع عبر الإعلام والمؤسسات التعليمية.
2. القياس: تطوير تطبيق وطني لاحتساب البصمة الكربونية الشخصية.
3. التوثيق: إصدار “شهادات البصمة الكربونية” للأفراد.
4. التحفيز: إدخال البند في أنظمة التقييم والحوافز.
5. الربط المؤسسي: اشتراطه في التعيينات والمناقصات والمشاريع الممولة.

إن تحويل البصمة الكربونية إلى معيار مهني وسلوكي هو خطوة ثورية في إدارة الموارد البشرية والحوكمة البيئية معًا.

فبدلًا من أن تكون حماية البيئة واجبًا على الحكومات فقط، تصبح مسؤولية جماعية يُكافأ عليها الأفراد بقدر التزامهم بها.

وفي النهاية، لن يُقاس الإنسان في المستقبل فقط بما أنجزه من مشاريع أو حمله من شهادات، بل أيضًا بكم خفف من أثره السلبي على هذا الكوكب.

فالبصمة الكربونية ليست مجرد رقم في تقرير بيئي، إنها مرآة أخلاقية لحضارتنا الحديثة، وبصمة وعي تستحق أن تكتب في السيرة الذاتية لكل إنسان مسؤول.