بقلم الدكتور .محمد يوسف حسن بزبز / سفير جائزة الملكة رانيا العبدالله للتميز التربوي
في كل مرةٍ يعتلي فيها صاحب الجلالة الملك عبدالله الثاني حفظه الله ورعاه منبر الأمة، تتجدد في القلوب تلك الشرارة التي تُضيء درب الوطن مهما اشتدت العتمة، فخطاب العرش الأخير لم يكن مجرد كلمات تُقال في افتتاح دورةٍ برلمانية، بل كان نداءً متجددًا للأردنيين جميعًا بأن هذا الوطن العظيم، الذي كُتب له أن يولد في قلب الأزمات، ما زال وسيبقى ينهض من رماد التحديات أقوى وأبقى.
الأردن ليس دولة عابرة في التاريخ، بل قصة عزيمةٍ تُروى على جبين المجد، كل سطرٍ فيها كُتب بدمعةِ أمٍ صابرة، وبصبرِ جنديٍ على الثغور، وبإيمانِ قائدٍ يرى في كل مواطنٍ ركيزةَ بناءٍ أساسية لهذا الوطن العظيم .
ومن بين سطور الخطاب الملكي، انبثقت رسالة الأمل، التي كانت وما زالت عنوان المسيرة الهاشمية منذ فجر النهضة: لا خوف على وطنٍ يتكئ على الله، ويتحد حول قيادته، ويؤمن أن المحن لا تصنع الانكسار، بل تُنجب الرجال.
في حديث الملك كان الوطنُ حاضرًا كائنًا حيًّا ينبض بالعزة. كان الوجع الفلسطيني في قلب الخطاب، وغزة الجريحة في ضمير كل جملة، والقدس في كل حرفٍ من حروف الكرامة. قالها جلالته بصدقٍ لا يلين: سنبقى إلى جانب أهلنا في غزة، وسنحمل القدس كما نحمل الروح، وصوتُ الأردن لن يسكت عن الحق ما دام فينا نفسٌ واحد.
وفي خضم هذا الألم العربي، جاء صوت الملك منارةً للأمل، يذكّرنا أن الأردن وُجد ليبقى، وأن الهاشميين ما غابوا يومًا عن ميدان الفعل، وأن الأزمات مهما تعاظمت لا تُرهب من تربّى على الشجاعة والصدق والعطاء.
لقد رسم جلالته في خطابه لوحةً من الثبات الوطني، عنوانها الإنسان الأردني الذي يتحدى ضيق الإمكانات بسعة الإيمان، ويصنع من قسوة الحياة نافذةً للنور.
لم يكن الخطاب حديث سياسةٍ فحسب، بل كان درسًا في فلسفة الصمود، فحين قال الملك: "يقلق الملك، لكنه لا يخاف إلا الله"، كانت تلك العبارة تختصر تاريخًا من القيادة التي تتوكل على الله وتؤمن بالشعب.
إنها رسالةٌ لكل مسؤولٍ وموظفٍ ومواطنٍ أن الوطن لا يُبنى بالهروب من التحديات، بل بمواجهتها بثقةٍ وإصرارٍ وشجاعةٍ لا تعرف الانحناء.
لقد كانت دعوة الملك لمتابعة مسار التحديث والإصلاح نداءً صادقًا بأن مستقبل الأردن مرهونٌ بعمل أبنائه، فالوطن لا يحتاج إلى من يتحدث عنه، بل إلى من يعمل لأجله، ويزرع في كل زاويةٍ منه أملاً جديدًا يثمرُ في وجه الزمن.
إنها مرحلةٌ تستدعي الإيمان قبل التخطيط، والعزيمة قبل العناوين، والولاء العملي قبل الشعارات.
ومن بين كل ما قاله جلالته، برزت فكرة جوهرية تختصر الموقف الأردني: "لا رفاهية في الوقت". فالتأجيل موتٌ بطيء، والتراخي خيانةٌ للمستقبل.
لقد أراد أن يضعنا أمام مرآة الحقيقة: إمّا أن ننهض جميعًا بوعيٍ ومسؤولية، أو نترك الفرصة تذهب إلى غير رجعة.
وما بين الحزم والحنان، بين القيادة والشعب، تتشكل معادلة الثقة التي جعلت الأردن استثناءً في منطق الأزمات.
الأردن اليوم، كما وصفه جلالة الملك، لا يعيش على أطلال التاريخ، بل يكتب فصوله الجديدة في وجه الريح.
فمنذ مئة عامٍ وأكثر، وهذا البلد الصغير بمساحته الكبير برجاله، يثبت للعالم أن الثبات على المبدأ أعظم من كثرة العدة، وأن الإيمان بالحق أقوى من ضجيج الجغرافيا.
من بين كل الأوجاع التي تمر بالعالم العربي، يبقى الأردن نموذجًا للدولة التي تعلّمت كيف تزرع في أرضها بذور الرجاء، وكيف تصنع من كل تحدٍّ فرصةً للبقاء.
وما قاله جلالة الملك في ختام خطابه ليس وعدًا بل يقينًا: "لا خوف على الأردن القوي بشعبه ومؤسساته".
تلك ليست عبارةً عابرة، بل قسمًا وطنيًّا يُجدد في كل عامٍ ولاء الأردنيين للأردن، وإيمانهم أن الأوطان لا تُحفظ إلا بالرجال الذين يؤمنون أن الانتماء ليس كلمة، بل فعلًا يُترجم في الميدان.
في خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني، تذكّر الأردنيون أن الأمل ليس ترفًا، بل عقيدة، وأن الثبات ليس خيارًا، بل قدرًا أردنيًّا جميلًا.
فمن رحم الصعاب يولد الوطن من جديد، ومن بين الأزمات يُشرق الفجر، ومن قلب التاريخ ينهض الأردن... كما ينهض النسر من بين الصخور، مرفرفًا بجناحي الكرامة والعزّة، إلى سماءٍ لا يطالها إلا الأحرار.






