بقلم : د.ثروت المعاقبة
يشكّل التعليم المهني أحد أهم مفاتيح التنمية الاقتصادية والاجتماعية في المجتمعات الحديثة، خصوصًا حين يمتد أثره ليشمل فئة الشابات اللواتي يمتلكن طاقات هائلة وقدرات عملية تحتاج فقط إلى التوجيه والتمكين، فالتعليم المهني ليس بديلاً عن التعليم الأكاديمي، بل هو مسار موازٍ يفتح أبواب العمل والإبداع والاعتماد على الذات، ويسهم في بناء اقتصاد وطني متنوع ومستدام.
ويُعدّ التعليم المهني فرصة ذهبية للشابات لاقتحام مجالات العمل والإنتاج بقوة وثقة، فهو يفتح أمامهن آفاقًا واسعة لتحقيق التمكين الاقتصادي والاجتماعي من خلال اكتساب مهارات عملية تمكّنهن من دخول سوق العمل بثقة، وتأسيس مشاريع صغيرة أو متوسطة تضمن لهن الاستقلال المالي والمساهمة في دعم أسرهن ومجتمعاتهن، كما يُسهم هذا النوع من التعليم في سدّ الفجوة بين التعليم وسوق العمل عبر تزويد الشابات بمهارات مطلوبة فعليًا في السوق، مثل التجميل، وتصميم الأزياء، والطهي، والحرف اليدوية، إضافة إلى المهارات التقنية الحديثة في مجالات الطاقة المتجددة والتكنولوجيا الصناعية والإبداعية، ومن خلال هذه البرامج، تتعزز روح الابتكار وريادة الأعمال لدى الشابات، فيتحولن من باحثات عن عمل إلى صانعات فرص ومؤسسات لمشاريع رائدة، خصوصًا في البيئات الريفية حيث أثبتت المرأة قدرتها على تحويل الفكرة إلى منتج يسوَّق محليًا وعالميًا، وإلى جانب ذلك، بات التعليم المهني اليوم وسيلة لتوسيع مجالات العمل أمام الشابات في ميادين غير تقليدية؛ فلم يعد مقتصرًا على المهن اليدوية أو الخدمية، بل شمل مجالات متقدمة كـالذكاء الاصطناعي، والروبوتات، والطاقة الشمسية، والزراعة الذكية، الأمر الذي يمنح الشابات فرصة للدخول في صناعات المستقبل، والمشاركة الفاعلة في بناء الاقتصاد الوطني على أسس علمية ومهنية متطورة.
رغم ما يتيحه التعليم المهني من فرص واعدة للشابات، إلا أن الطريق أمامهن ما زال محفوفًا بجملة من التحديات التي تحدّ من انتشاره وفاعليته، فالصورة النمطية الاجتماعية تعد من أبرز العقبات، إذ ما تزال بعض الأسر والمجتمعات تنظر إلى التعليم المهني على أنه خيارٌ أقل شأنًا من التعليم الأكاديمي، مما يؤدي إلى عزوف كثير من الفتيات عنه رغم ما يوفره من فرص عملية ومهنية حقيقية، كما تواجه مراكز التدريب المهني ضعفًا في التمويل والبنية التحتية، حيث تفتقر العديد منها إلى المعدات الحديثة والبرامج التدريبية المتطورة القادرة على مواكبة متطلبات سوق العمل المتغيرة، وهو ما ينعكس سلبًا على جودة التدريب وكفاءة المخرجات، ويضاف إلى ذلك محدودية فرص التشغيل بعد التخرج، إذ لا تزال الصلة بين مؤسسات التدريب وسوق العمل ضعيفة في كثير من الأحيان، ما يؤدي إلى بطالة مقنّعة أو إلى هجرة الكفاءات نحو مجالات أخرى لا تتناسب مع تخصصاتهن المهنية. أما على الصعيد الاجتماعي، فلا تزال العوائق الثقافية والمجتمعية تشكل حاجزًا أمام بعض الشابات، خاصة في المناطق الريفية، حيث قد تمنع الأعراف والتقاليد التحاق الفتيات ببرامج التدريب المختلطة أو السفر لمسافات طويلة للوصول إلى مراكز التدريب، ما يحرمهن من فرص تطوير الذات والمشاركة في التنمية الاقتصادية هذه التحديات مجتمعة تفرض ضرورة تبني سياسات وطنية شاملة تعيد الاعتبار للتعليم المهني وتمنحه المكانة التي يستحقها كرافعة أساسية لتمكين الشابات والنهوض بالمجتمع.
للنهوض بواقع التعليم المهني وتمكين الشابات لا بد من تبني أفكار استراتيجية شمولية تعيد صياغة المفهوم وربطه بمتطلبات التنمية الحديثة، حيث تبدأ هذه الأفكار بـ تعزيز الشراكات بين القطاعين العام والخاص، وذلك من خلال إقامة تعاون فعّال بين الوزارات والمؤسسات التعليمية ومراكز التدريب والشركات الإنتاجية، بهدف تطوير برامج مهنية تتوافق مع احتياجات سوق العمل الفعلية وتوفر فرص تدريب ميداني حقيقي يربط النظرية بالتطبيق، كما يجب العمل على تغيير الصورة الذهنية السائدة عن التعليم المهني عبر حملات إعلامية وتوعوية تبرز قصص نجاح لشابات استطعن من خلال هذا المسار تحقيق إنجازات مميزة، لتتحول النظرة إليه من كونه خيارًا بديلًا إلى كونه خيارًا ذكيًا لبناء المستقبل وتحقيق الذات،
ومن الضروري أيضًا إدماج التكنولوجيا والابتكار في البرامج التدريبية، فالعالم يشهد ثورة رقمية شاملة تتطلب مهارات جديدة في مجالات الذكاء الاصطناعي، والحوسبة السحابية، والطباعة ثلاثية الأبعاد، مما يستدعي تحديث المناهج والمعدات التدريبية لتواكب هذه التحولات. وأخيرًا، يجب تطوير منظومة الإرشاد المهني لتوجيه الطالبات منذ المراحل الدراسية المبكرة نحو اكتشاف ميولهن وقدراتهن، ومساعدتهن على اختيار المسارات المهنية التي تتناسب مع شخصيتهن وطموحاتهن، بما يضمن توجيه الطاقات الشابة في الاتجاه الصحيح الذي يخدم التنمية الوطنية.
في ضوء التحديات والفرص المطروحة، تبرز الحاجة إلى خطط مستقبلية واضحة وطموحة تضمن استدامة التعليم المهني وتوسع أثره بين الشابات من أبرز هذه الخطط إنشاء أكاديميات مهنية متخصصة للشابات تُعنى بمجالات الإبداع والابتكار وريادة الأعمال، وتوفر بيئة تعليمية حديثة قائمة على التجريب العملي والتطبيق الواقعي، مما يسهم في صقل مهارات المتدربات وتمكينهن من خوض سوق العمل بثقة.
كما يجب تحفيز الاستثمار في التعليم المهني النسوي من خلال تقديم حوافز ضريبية وتسهيلات للقطاع الخاص لتأسيس مشاغل تدريبية ومصانع صغيرة تديرها الشابات أنفسهن، الأمر الذي يعزز روح القيادة والمسؤولية لديهن، وإدراكًا لأهمية التنمية المستدامة، ينبغي ربط التعليم المهني بمشروعات الاقتصاد الأخضر مثل الطاقة الشمسية والزراعة العضوية وإدارة النفايات وإعادة التدوير، بما يتيح فرص عمل جديدة تسهم في الحفاظ على البيئة وتحقيق النمو الاقتصادي المتوازن.
إضافةً إلى ذلك، فإن توسيع برامج التبادل الدولي والتدريب الخارجي يمثل ركيزة مهمة لاكتساب الخبرات العالمية الحديثة، وتبادل المعرفة مع مؤسسات تدريبية دولية متقدمة، مما يمكّن الشابات من العودة بخبرات نوعية تسهم في تطوير التعليم المهني محليًا ورفع كفاءته على المستويين الفني والتقني.
إن تمكين الشابات من التعليم المهني مشروع وطني لبناء جيلٍ منتجٍ ومبدع يقود التحول الاقتصادي والاجتماعي في الأردن والعالم العربي، فكل شابة تتعلم مهنة، إنما تكتب فصلًا جديدًا في قصة التنمية، وتؤكد أن المستقبل لا يُنتظر، بل يُصنع بالمهارة والإرادة.






