بقلم : الدكتور محمد طه العطيوي
حين اعلن سمو ولي العهد رؤيته للسردية الوطنية، شعرت ان اللحظة التي رافقتني لعام ونصف قد اكتملت اخيرا. ذلك العمل الذي كتبته في صمت الليالي، واعيدت صياغته مرارا، وبنيته صفحة بعد صفحة، بدا وكأنه ينتظر تلك اللحظة تحديدا؛ اللحظة التي يلتقي فيها صوت شاب من الطفيلة مع نداء ولي العهد الذي اراد للسردية الوطنية ان تكتب بصدق ابناء وبنات الوطن. وكأن ارادة الله شاءت بان يترتب كل شيء بدقة؛ ان تنطلق الدعوة من الطفيلة، وان تأتي اول استجابة من احد ابنائها، يحمل كتابا بيده واقفا عند العتبة ينتظر الاشارة ليولد، رواية عن وطنه كما عاش فيه وفهمه وامن به.
كانت زيارة سمو الامير الحسين الى الطفيلة نافذة تفتح على ضوء جديد. في تلك اللحظة ادركت ان ما كتبته طوال عام ونصف العام لم يكن مجرد مشروع شخصي، بل ملامسة صادقة لوجدان وطن يبحث عن من يروي حكايته من جديد. حين تحدث سموه عن توثيق السردية الاردنية، لم اسمع خطابا، بل سمعت جملة تستدعي نصا ظل ينتظر اشارته.
كتابي "رؤية شبابية في بناء الدولة الاردنية الحديثة" جاء محاولة لفهم الاردن كما يعيشه الناس: تاريخه الذي نحمله في التفاصيل، قيادته التي تمسك الدفة بثبات، شبابه الذين يبحثون عن دورهم، ومؤسساته التي تتغير وتتحدث لتلائم زمنا لا ينتظر. اردت لهذا الكتاب ان يكون شهادة جيل يرى نفسه شريكا في المشروع الوطني. كتبت وانا ارى ظل الملك الحسين - طيب الله ثراه - حاضرا بروحه التي ما زالت تسكن الاردنيين. وكتبت وانا ارى اثر جلالة الملك عبدالله الثاني - حفظه الله - في تحديث الدولة وتثبيت ركائزها، وارى في سمو ولي العهد الامير الحسين - حفظه الله - ملامح جيل جديد يعيد تعريف القيادة بالشغف والعمل والقرب من الناس.
اربعة عشر عاما من التطوع والعمل مع الشباب والانخراط في الشأن العام جعلتني اقترب اكثر من الاسئلة التي شكلت اساس هذا الكتاب: ماذا يريد الشاب الاردني؟ كيف يرى وطنه؟ وكيف يترجم ايمانه بالدولة الى عمل حقيقي؟ ولهذا كتبت فصول الكتاب بثلاث طبقات مترابطة: تاريخ لا يمكن القفز عنه، وواقع نواجهه بشجاعة، وامل نصر على ان يكون اكبر من كل الظروف.
بين صفحات الكتاب حاولت ان استعيد الخيط الواصل بين قائدين هاشميين بنيا الاردن بحكمتهما، جلالة الملك الحسين بن طلال ، وجلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين ، وبين ولي عهد يحمل الراية ويكمل المسار، سمو الامير الحسين. رأيت كيف صاغ الملك الحسين وجدان الدولة، وكيف اعاد الملك عبدالله تشكيل مؤسساتها وبناء ثقة الناس فيها عبر التحديث والتمكين، وكيف يمضي ولي العهد اليوم ليكتب فصله الخاص، فصلا يحمل روح الشباب وشغف المستقبل ومسؤولية الراية.
هذا الكتاب لم يكن مجرد قراءة سياسية، بل رحلة غصت فيها في الاوراق النقاشية الملكية، وفي مسار تحديث مؤسسات الدولة، وفي المبادرات الوطنية الهادفة الى تمكين الشباب، وفي التحولات التي تصنع شكل الاردن القادم. كانت رحلة متعبة؛ ليال تطول حتى الفجر، وصفحات تكتب ثم تمحى، وافكار تتشكل ثم تولد من جديد. لكن الرحلة اعادتني الى الاردن الحقيقي: الاردن البسيط، الصابر، النظيف من الداخل، المليء بوجوه طيبة تعرف كيف تحب وطنها.
ورغم عدم حضوري اللقاء الوجاهي مع سمو ولي العهد في الطفيلة - لان اسمي لم يرد في قوائم الدعوات- الا ان كلماته وصلتني كما لو انها قيلت لي مباشرة. شعرت انه يمسك بخيط الكتاب الذي بدأته قبل عام ونصف ويقول لي : اكمل ، فهذه السردية يجب ان تظهر للعلن. وكانت تلك اللحظة كافية لافهم ان جهدي لم يكن معزولا عن اللحظة الوطنية، وان الطفيلة التي خرج منها النداء هي نفسها التي خرجت منها الاستجابة.
واليوم، بعدما اكتمل هذا العمل، ادرك ان الكتابة ليست نهاية الطريق، بل بدايته. فالقيمة الحقيقية لاي كتاب تكمن في ان يصل الى جمهوره ، الى الجامعات ، الشباب ، المؤسسات الرسمية و الشبابية ، والى الذاكرة الوطنية التي ستقرأها الاجيال المقبلة. وهذا يتطلب دعما مؤسسيا، لان السردية الوطنية لا تكتب بجهد شخص واحد، بل ببناء تراكمي تشارك فيه القيادة والمجتمع والشباب و المؤسسات.
وانطلاقا من رؤية سمو ولي العهد، ومن الارث الهاشمي الذي رسخه الملك الحسين في قلوب الاردنيين، ومن النهج الذي يقوده جلالة الملك عبدالله الثاني في تحديث الدولة، اضع هذا العمل - كنسخة نهائية قابلة للتطوير - بين يدي الديوان الملكي الهاشمي العامر، املا ان يجد الرعاية و الدعم الذي يستحقه. ويشرفني ان اقدمه لجلالة الملك عبدالله الثاني وسمو الامير الحسين بن عبدالله الثاني، ليطلعا على اول استجابة شبابية لنداء السردية الوطنية الذي خرج من الطفيلة، وليشهدا ان شابا من اهلها امن برؤية القيادة الهاشمية الحكيمة ، واستنار بتوجيهاتها، وكتب ما اعتقد انه واجب وطني قبل ان يكون عملا شخصيا.
قد لا تكون هذه السردية مكتملة، ولا تمثل كل الاصوات، لكنها بداية الطريق، وصوت يريد ان يسمع، وحلم يؤمن ان الاردن ما زال يكتب فصوله، وان المستقبل يصنعه الذين يملكون شجاعة الاقتراب منه.






