بقلم : د.ثروت المعاقبة
في مسيرة الهاشميين، تتجلّى خبرات ممتلئة بالبصيرة والاتزان، حيث لم تكن قيادتهم يومًا مجرّد إدارةٍ لشؤون دولة، بل رسالةٌ تُجسّد القيم في المواقف قبل الأقوال، ظلّ الهاشميون يقدّمون نموذجًا فريدًا في فهم الإنسان، وصون الكرامة، وصنع القرار الهادئ المبني على المعرفة والتجربة. مواقفهم ليست أحداثًا عابرة، بل دروسًا تُستقى منها معاني العدل، والرأفة، والشجاعة، والقدرة على رؤية ما وراء اللحظة. ولهذا أصبح تاريخهم مرجعًا لمن يبحث عن القيادة الرشيدة، وسجلًّا يفيض بحكمٍ تُضيء الطريق وتلهم الأجيال.
وفي أحد اللقاءات تحدث الأمير الحسن بن طلال بعبارة عميقة تتمثل ب" إن أطول مسافة هي ما بين العقل والفؤاد، والأطول منها رحلة العودة من الفؤاد إلى العقل"، كان ذلك وصفا دقيقًا لطبيعة الإنسان حين يتأرجح بين ما يعرفه وما يشعر به. هذه العبارة العميقة تحمل جوهرًا إنسانيًا يصف صراعًا نعيشه جميعًا كيف ننتقل من حساباتنا الواعية إلى نبضنا الداخلي، وكيف نحاول لاحقًا أن نعيد ترتيب هذا النبض داخل إطار العقل.
المسافة التي لا تُقاس بعدد الخطوات .......العقل مساحة منظمة، تُبنى فيها القرارات على قواعد واضحة ومعايير محددة.
أما الفؤاد فهو بحر، تتغير أمواجه بسرعة، وتتحرك فيه الدوافع والرغبات والذكريات والأمنيات.
ورغم قربهما داخل الإنسان، إلا أن الوصول من أحدهما إلى الآخر يشبه عبور صحراء واسعة؛ كل خطوة فيها تكشف شيئًا جديدًا، وتخفي شيئًا آخر.
عندما يصل الإنسان إلى الفؤاد يعني الاستسلام للحقيقة الداخلية، للانفعال الحقيقي، للرغبة الصادقة، سواء كانت فرحًا أو حزنًا أو خوفًا أو شغفًا.
لكن المشكلة تبدأ بعد الوصول ، فالمشاعر لا تبني قرارات وحدها، ولا تحفظ توازن الإنسان إن تُركت بلا عقل يحكمها.
هنا يبدأ الامتحان الأصعب: هل يستطيع الإنسان أن يحمل ما شعر به ويعود به إلى العقل؟
رحلة العودة… الأطول والأصعب على الإطلاق ليست رجوعًا عن الشعور، بل محاولة لترتيب تلك المشاعر، وإعادة صياغتها بشكل ناضج، حتى لا تتحوّل إلى اندفاع أو تهور أو قسوة أو ضعف.
هذه العودة تحتاج إلى صفاء.
إلى شجاعة، وقدرة على مواجهة الذات بلا تزييف، فالعقل لا يرفض المشاعر… لكنه يطلب منها أن تتحدث بلغة مفهومة، وأن تسمح له بأن يوازنها ويضعها في مكانها الصحيح.
بين العقل والفؤاد يولد النضج الحقيقي فالإنسان الذي يعيش بعقلٍ دون فؤاد يصبح آلة بلا مشاعر.
والذي يعيش بفؤادٍ دون عقل يصبح سهل الانكسار.
لكن الإنسان الذي يقطع الطريق بين الاثنين، ذهابًا وإيابًا، هو الذي يصل إلى النضج يعرف بماذا يشعر، وماذا يقرر، وكيف يتحمّل نتائج اختياره.
هذه العبارة ليست مجرد حكمة…... إنها دعوة للإنسان أن يتصالح مع داخله، وأن يدرك أن التوازن ليس في إلغاء أحد الجانبين، بل في بناء جسرٍ متين بينهما.
جسرٌ لا يُختصر بكلمات، بل يُصنع من التجربة والصبر والصدق.






