بقلم: موسى الدردساوي
من الإيمان العميق بأن التنمية الحقيقية لا تُصنع بالصدفة، بل تنمو حين تتلاقى الإرادة مع المعرفة وتتظافر الجهود حول هدف واضح، ينبثق مفهوم ربط المسؤولية المجتمعية بدليل احتياجات المحافظات كخطوة مبتكرة تعيد تشكيل طريقة التفكير في العمل التنموي في الأردن.
فحين تتحرك المبادرات وفق بوصلة دقيقة تستند إلى بيانات واقعية، يتحول الأثر الاجتماعي من مجرد جهود متناثرة إلى مشروع وطني متكامل يُقاس أثره ويُحسن في حياة الناس اليومية.
لقد اعتاد القطاع الخاص على تقديم الدعم والمبادرات المجتمعية بروح من المسؤولية الصادقة، غير أن غياب الأولويات المحددة لكل محافظة كان يجعل بعض هذه المبادرات، رغم نواياها الحسنة، لا تصل إلى المكان الذي يحتاجها فعليًا. وهنا يبرز دور دليل احتياجات المحافظات؛ فهو ليس مجرد وثيقة إدارية، بل نافذة تكشف الفجوات التنموية وتحدد المجالات التي تستدعي تدخلاً مباشراً، مانحًا الشركات رؤية واضحة لما يمكن أن يحدث فرقًا حقيقيًا في حياة المواطنين.
حين تتجه المبادرة إلى حاجة موثقة ومدروسة، يتحول العمل الاجتماعي إلى استثمار وطني طويل المدى، تتضح نتائجه ويصبح أثره ملموسًا. يتغير مفهوم المبادرة من مجرد صورة تُلتقط إلى أثر يُقاس، ومن جهد منفرد إلى مساهمة متكاملة ضمن منظومة تنظر إلى الإنسان قبل كل شيء. بهذا النهج، لا تتحقق العدالة في توزيع المشاريع فحسب، بل تتعزز الثقة بين المجتمع ومؤسسات القطاع الخاص، التي ترى في التنمية شراكة دائمة وليست مجرد واجب عابر.
الأردن شهد أمثلة حية على هذا النهج، كما في مبادرة شركة البوتاس العربية وجمعية البنوك الأردنية وشركات أخرى التي خصصت 170 مليون دينار لدعم الصحة والتعليم. لم تكن هذه مساهمة مالية فحسب، بل دلالة على قدرة القطاع الخاص على إحداث أثر وطني ملموس حين يعمل بتوافق مع احتياجات المحافظات وواقع الخدمات.
إن ربط المسؤولية المجتمعية بدليل الاحتياجات يتجاوز كونه فكرة إدارية ليصبح رؤية استراتيجية تعيد تعريف العلاقة بين المجتمع والمؤسسات على أسس من الشفافية والاحترام والإيمان بأن التنمية تبدأ من الميدان لا من المكاتب. إنها دعوة إلى عمل منظم ومستمر، يحمل أثرًا يبقى ويُبنى عليه، ويجعل كل محافظة جزءًا من قصة تنمية وطنية تمتد في حياة الناس اليومية.
ويتكامل هذا النهج مع الرؤية الهاشمية التي يقودها جلالة الملك عبدالله الثاني ويدعمها سمو ولي العهد الأمير الحسين، حيث يؤكد جلالته باستمرار أن التنمية العادلة تبدأ من الناس وإليهم، وأن توزيع الفرص وتحسين الخدمات لا يكتملان إلا حين تستند السياسات إلى معلومات دقيقة واحتياجات واضحة. وقد لعبت جهود جلالته في إطلاق مسارات التحديث الثلاثة—السياسي والاقتصادي والإداري—دورًا جوهريًا في تعزيز مفهوم التنمية المبنية على البيانات، بينما يواصل سمو ولي العهد تعميق هذا النهج عبر مبادرات شبابية ومجتمعية تؤكد أن خدمة المواطن مسؤولية مشتركة بين القطاعين العام والخاص. وبفضل هذه الرؤية، بدأ القطاع الخاص يدرك أن دوره يتجاوز الدعم المالي إلى شراكة تنموية تهدف إلى تقليص الفجوات وتحسين جودة الحياة في كل محافظة.
هذه الرؤية قابلة للتطبيق ومؤهلة لأن تُحتضن على المستوى الوطني، لأنها قادرة على تحويل المسؤولية الاجتماعية من جهد موسمي إلى مسار مستدام، يليق بطموح الأردنيين ويعكس إرادتهم في صناعة غد أفضل، أكثر عدلاً وعمقًا.






