بقلم : العميد لؤي إرزيقات - فلسطين
في المجتمعات التي تتآكل أطرافها بصمت، تقف المخدرات بوصفها أحد أخطر الأسلحة الخفية التي لا تستهدف الجسد وحده، بل تنفذ عميقاً إلى العقل والروح، فتُعيد تشكيل السلوك الإنساني على نحوٍ مشوَّه، وتفتح أبواباً واسعة للجريمة والانحراف. فالمخدرات ليست مجرّد مواد تُذهب الوعي مؤقتاً، بل هي قوة مدمّرة تُفقد الإنسان توازنه النفسي والعقلي، وتدفعه في كثير من الأحيان إلى أفعال لم يكن ليقترب منها في حالة الصحو والاتزان.
إن التأثير المباشر للمخدرات على الجهاز العصبي والمركزي للإنسان يُحدث اضطرابات حادة، تتراوح بين فقدان التركيز، وتشوش الإدراك، والانفعالات العصبية والهستيرية. وفي لحظات التعاطي، يعيش المتعاطي حالة من النشوة الزائفة، يختلط فيها الشعور بالقوة الوهمية باندفاع غير محسوب، فيغيب ميزان العقل، وتُعطَّل القدرة على التمييز بين الصواب والخطأ. هنا، يصبح السلوك أكثر تهوراً، وتتحول الحدود الأخلاقية والقانونية إلى خطوط باهتة يسهل تجاوزها.
ولا يمكن الحديث عن علاقة المخدرات بالجريمة دون التوقف عند الارتباط الجزئي وأحياناً المتصاعد بين التعاطي وارتكاب جرائم القتل. ففي حالات كثيرة، لا يكون التعاطي وحده العامل الحاسم، بل يشتد خطره حين يتزامن مع اضطرابات نفسية عميقة أو أمراض عقلية مستعصية لم تحظَ بالعلاج والرعاية. عند هذا التلاقي الخطير، يتحول الارتباط إلى تلازمٍ قاتل، قد يُفضي إلى انفصام في الشخصية، أو هلوسات سمعية وبصرية، يرى فيها المتعاطي محيطه أعداءً متربصين، فيتكوّن داخله دافع عدواني قائم على الوهم والارتياب، وقد يندفع لارتكاب جرائم قتل، أو اعتداء، أو سرقة، بدافع الانتقام أو الدفاع المتخيَّل عن النفس.
ومن أخطر صور القتل المرتبطة بالمخدرات ما يُعرف بالقتل الذاتي، حيث يُقدِم المدمن على تعاطي جرعات زائدة تؤدي إلى الوفاة، سواء بقصدٍ مباشر أو نتيجة فقدان التقدير والسيطرة. إنها نهاية مأساوية تعكس حجم الانهيار النفسي والعقلي الذي يصل إليه المدمن، وتكشف الوجه الأكثر قسوة لإدمان لا يرحم. وعلى الرغم من أن حالات القتل تحت تأثير التعاطي قد تكون محدودة نسبياً من حيث العدد، إلا أن خطورتها تكمن في طبيعتها المفاجئة وغير المتوقعة، وفي آثارها العميقة على الأفراد والمجتمع على حدّ سواء.
أمام هذا الواقع المعقّد، لا يكفي الاكتفاء بالإدانة أو العقاب، بل لا بد من مقاربة شاملة تبدأ من الوقاية ولا تنتهي عند العلاج. فالتوعية تمثل خط الدفاع الأول، عبر نشر الوعي بمخاطر المخدرات وآثارها النفسية والاجتماعية والقانونية، خاصة بين فئة الشباب. كما أن علاج الاضطرابات النفسية المصاحبة للإدمان يُعد ضرورة ملحّة، لا خياراً ثانوياً، فالصحة النفسية ليست ترفاً، بل أساس الاستقرار الفردي والمجتمعي.
ويبقى التحدي الأكبر في كسر حاجز الخوف المرتبط بـوصمة العار والفضيحة، تلك التي تمنع كثيرين من طلب العلاج في الوقت المناسب. فالإدمان مرض، والمرض يحتاج إلى احتواء وعلاج، لا إلى نبذٍ وتشهير. حين نُعيد للإنسان ثقته بإمكانية التعافي، ونوفّر له بيئة آمنة للعلاج والدعم، نكون قد خطونا خطوة حقيقية نحو حماية المجتمع من دوائر الجريمة، وصون الأرواح من مصائر كان يمكن تفاديها.
إن مواجهة المخدرات ليست معركة أمنية فحسب، بل معركة وعي، وإنسانية، ومسؤولية جماعية. فحين نحمي العقل، نحمي السلوك، وحين نصون الإنسان، نُغلِق أبواب الجريمة قبل أن تُفتَح.






