الأتمتة ومستقبل الوظائف.. التحدي التكنولوجي لعمال العالم وحكوماته
ستشغل الأتمتة (Automation) أكثر من 11 مليون وظيفة في الولايات المتحدة الأميركية وحدها في العقد المقبل، وذلك حسب تقرير أصدرته شركة “فورستر” (Forrester) قبل أيام.
هذه هي الأخبار السيئة، ولكن الأخبار الجيدة هي أن الأتمتة ستخلق في الوقت نفسه 9.63 ملايين وظيفة جديدة، وعلى هذا الأساس فستكون الخسارة الصافية للوظائف 1.42 مليون وظيفة.
هذا في أميركا أما في العالم، وحسب تقرير للمنتدى الاقتصادي العالمي نُشر حديثا، سيرتفع معدل الاعتماد على الآلات في جميع أنواع الوظائف إلى 52% بحلول عام 2025، وستقضي الأتمتة والروبوتات والذكاء الاصطناعي على 85 مليون وظيفة على مستوى العالم في الفترة نفسها.
ولكن المثير للتفاؤل هو أن الأتمتة ستخلق أيضا 97 مليون وظيفة جديدة في المستقبل، وهذا شيء يدعو للأمل، وذلك مع أن هذه الوظائف ستكون جديدة تماما، وكثير منها لم يوجد بعد، وفي جميع الأحوال فإن هذه أرقام كبيرة وتغييرات هائلة ستطرأ على سوق العمل في المستقبل في مختلف الدول والمجتمعات، وهو الأمر الذي يتطلب تدخلا سريعا وعمليا من قبل الحكومات والشركات والعمال أنفسهم.
ما الذي يمكننا فعله لمواجهة هذا التحدي؟
للإجابة عن هذا السؤال، استطلع الصحفي والكاتب الأميركي المتخصص بشؤون التكنولوجيا جون بي ميلو آراء مجموعة من الخبراء في هذا المجال عبر منصة “تيك نيوز ورلد” (Tech News World) من بينهم جي بي غاوندر نائب رئيس شركة “فورستر” وأحد معدّي التقرير المذكور، وبدأ حديثه بالقول “إن هذا سيعني أن الموظفين بحاجة إلى إعادة تأهيل واكتساب مهارات جديدة، وهو ليس شيئا يمكن لكل عامل إنجازه بمفرده”.
وتابع “ومع ذلك، فإن قدرة السياسات العامة للدول على النجاح في مواجهة هذا التحدي ستختلف من بلد إلى آخر، فمثلا في ألمانيا، حيث توجد روابط قوية بين الجامعات وأرباب العمل، سيكون من الأسهل النجاح مقارنة بالولايات المتحدة حيث يُتوقع غالبا من الموظفين إيجاد حلولهم الخاصة بأنفسهم”.
أهمية إعادة التأهيل وصقل المهارات
من جهته، قال جايانت نارايان مدير تحالف العمل العالمي للذكاء الاصطناعي التابع للمنتدى الاقتصادي العالمي لمنصة “تيك نيوز ورلد” إن فقدان الوظائف سيخلق تحديات في كل من القطاعين الحكومي والخاص “على صعيد الحكومات، فإنه يثير أسئلة عن شبكات الأمان الاجتماعي، والاستثمار في برامج التعلم مدى الحياة، وتدريب المواطنين في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات وغيرها من العوامل الأخرى المهمة”.
وأضاف “بعض هذه المعايير، مثل إعادة تشكيل المهارات، سيكون لها أفق متوسط إلى بعيد المدى، وعلينا أن لا نتوقع وجود حل سريع لإعادة تشكيل المهارات. وأما في القطاع الخاص، فإن هذا يثير تساؤلات عن مساعدة العمال على الخروج من نمط الوظائف والمهن التقليدية نحو تطوير مجموعة أوسع من المهارات التي تتسق مع روح العصر”.
بدوره، يؤكد داريل ويست، نائب رئيس الدراسات الحكومية في معهد بروكينغز -منظمة غير ربحية للسياسة العامة في واشنطن- أن “هناك حاجة إلى كثير من إعادة التدريب والتأهيل للعمال”.
وأوضح “هناك برامج إعادة تدريب موجودة بالفعل حاليا، لكنها غالبا ليست جيدة بما يكفي، ولا تؤهل الأشخاص للوظائف الجديدة التي يتم إنشاؤها.. نحن بحاجة إلى برامج أفضل تتوافق مع الوظائف الجديدة، والمشكلة أن العديد من الأشخاص المهددين بفقدان وظائفهم لا يمتلكون المهارات اللازمة لهذه الوظائف الجديدة”.
وتابع “تركز كثير من البرامج على مهام محددة جدا، ولكن مكان العمل يتغير على نحو كبير لدرجة أنه من الصعب العثور على وظائف للأشخاص الذين يمكنهم القيام بشيء واحد فقط. نحن بحاجة إلى برامج تدرك ما تحتاج إليه الشركات والمهارات التي تبحث عنها وتعمل على تغطيتها بتقديم التدريب المناسب للعمال”.
الأشخاص الذين يعملون في الوظائف الجديدة يجب أن يكونوا على دراية بالعمل جنبا إلى جنب مع الآلات (رويترز)
مهن المستقبل وأهمية التعايش بين البشر والروبوتات
وبالعودة إلى جايانت نارايان الذي أكد في تصريحاته لجون بي ميلو عبر المنصة المذكورة أن بإمكان الجامعات الإسهام في إعادة صقل المهارات بإنشاء دورات مختلطة تجمع بين العلوم الإنسانية والعلوم التقنية. وقال “يحتاج المهندسون إلى فهم أخلاقيات الأنظمة وتداعياتها قبل تصميمها”.
وفي هذا السياق قال داريل ويست إن كليات المجتمع التي تبلغ سنوات الدراسة بها سنتين فقط تقوم بعمل أفضل من الجامعات ذات الأربع سنوات في إعداد الطلاب للوظائف.
وأوضح “كليات المجتمع أكثر توجها نحو سوق العمل المحلية.. إنهم يحاولون إعطاء الطلاب المهارات العملية التي ستوفر لهم وظائف في المستقبل، في حين تقوم بعض الجامعات بتعليم الطلاب وتدريبهم على المهن التي كانت موجودة في السابق، وليس على المهن الجديدة التي تظهر الآن”.
من جانبه، أوضح فورستر أن الوظائف الجديدة التي ستنشأ عن طريق الأتمتة ستكون في مجال الخدمات المهنية وتكنولوجيا المعلومات، وكذلك في الصناعات الجديدة، مثل الطاقة المتجددة والمباني الخضراء والمدن الذكية والبنية التحتية.
أما غاوندر فأشار إلى أن الأشخاص الذين يعملون في الوظائف الجديدة يجب أن يكونوا على دراية بالعمل جنبا إلى جنب مع الآلات. وقال “سواء أكانت لديك مهارات تقنية أم لا، يجب أن تكون مرتاحا للعمل في فريق مختلط من البشر والآلات التي تلعب فيها البرامج الذكية دورا رئيسا”.
وأضاف أن التأثير الأكبر للتكنولوجيا في المرحلة القادمة سيأتي في مسألة “تغيير المهام” التي تشكل عماد أي وظيفة معينة، وليس القيام بالوظيفة نفسها أو توليها.
وبالعودة إلى تقرير شركة فورستر الذي أوضح أن التنازل عن مهمة محددة -مثل أتمتة تقارير النفقات، أو زيادة القدرة على حل مشاكل البيانات، أو السماح للروبوت بمسح الأرضية- يغير تكوين وظيفة معينة بدلا من استبدالها. وتتوقع فورستر أن تتأثر 80% من الوظائف بهذه الطريقة بحلول عام 2030، على نحو يؤدي إلى تحسين تجربة الموظف مع انتقال مهام محددة إلى الآلات بدلا من البشر.
وجدت شركة فورستر أيضا تغييرا في الموقف في صفوف القيادات العليا بشأن الأتمتة. وأوضحت أن القادة والمديرين توقفوا عن النظر إليها في المقام الأول على أنها فرصة لخفض التكاليف ويرون الآن في الأتمتة مجموعة أوسع من الفوائد الممكنة.
واستشهدت ببيانات الشركة التي تظهر أن 41% من صنّاع القرار في مجال البيانات والتحليلات وصفوا التوفير في التكلفة بأنها ميزة لاعتماد الأتمتة في عام 2018، ولكن 25% فقط قالوا الشيء نفسه في 2021.
بالإضافة إلى ذلك، وجدت شركة فورستر ارتفاعا ملحوظا في نسبة القادة الذين أشاروا إلى رؤى أعمق واعتبروا “التمايز التنافسي” مزايا أوجدتها الأتمتة.
ومن بين مجموعة الفوائد الأخرى التي أوجدتها الأتمتة وذكرها التقرير سد فجوات المواهب، وتحرير الموظفين لأداء عمل أكثر تقدما، وتحسين تجربة العملاء والجودة والسلامة، واكتساب رؤى أعمق من تحليل البيانات لتحسين وتطوير المهام والعمليات داخل بيئة العمل.
وفي هذا السياق، قال ويست لمنصة تيك نيوز ورلد “يمكن أن تكون الأتمتة مفيدة في إراحة البشر من الوظائف القذرة والخطيرة، والوظائف الروتينية والدونية تماما”.
أشار التقرير إلى المخاوف من أن التكنولوجيا ستدمر الوظائف التي لا تزال شائعة بين قطاعات واسعة من الناس، وقد يكون لها ما يبررها، ولكن تأثير الأتمتة على الوظائف سيكون أخف بكثير مما هو متوقع في المستقبل كما يرى كثير من المراقبين.
وبدلا من ذلك، ستستمر التكنولوجيا والبشر في الانخراط على نحو متزايد في عمليات تعاون متكررة ومترابطة، وتشكيل فرق بشرية/ آلية تؤدي إلى مستويات جديدة من الجودة والإنتاجية وتحسين خدمة العملاء وتطوير الخدمات التي تقدم للناس.
وعلق نارايان على هذه النقطة في تصريحاته لجون بي ميلو “هذه عملية بناء ثقة، ويجب أن يشعر العمال أنهم جزء من الرحلة”.
أما ويست فأكد أن “أهم شيء يمكن أن تفعله الشركات هو إعادة تدريب عمالها وكوادرها.. إذا رأى الناس أن صاحب العمل يجلب الأتمتة ولكنه يدرب الموظفين والعمال في شركته على أنواع أخرى من الوظائف الجديدة بدلا من طردهم، فسيكون العمال أكثر تقبلًا لذلك. ما لا يريده العمال هو طردهم من عملهم وبقاؤهم من دون دخل كاف للإنفاق على أنفسهم وعائلاتهم”.
المصدر : الجزيرة