مقالات
أخر الأخبار

الدكتورة جمانة حطاب تكتب : ‎حراسة الذاكرة: الثقافة الشعبية جسر الانتماء والهوية

22 الاعلامي – بقلم : الدكتورة جمانة حطاب

‎كان لي شرف حضور أمسية تراثية بعنوان “سيرة سالم”، أقامتها جمعية الحنونة للثقافة الشعبية. وقد كان العرض مزيجًا مدهشًا من الفن الفلكلوري الأصيل والسرد القصصي الممتع الذي أعاد الحضور إلى أعماق تراثنا العريق.
‎ما يميز أمسيات الحنونة، على الدوام، أنها ليست مجرد عروض ثقافية، بل هي نداء دائم إلى تقوية رابطة الانتماء لثقافتنا العربية، مع ربط هذا الموروث بروح بلاد الشام الواحدة التي توحدها أواصر التاريخ والثقافة المشتركة.

‎وفي هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى رؤية ورسالة جمعية الحنونة، التي لا تكتفي بتقديم الفنون الشعبية، بل تؤمن بدورها العميق في “حراسة الذاكرة”، فالحنونة ترى أن الثقافة الشعبية ليست مجرد تراث، بل هي الحاضن الأساسي لعناصر الهوية الوطنية، وأن مسؤولية الحفاظ على هذا التراث تقع على عاتق الجميع، بغض النظر عن أدوارهم أو مواقعهم في المجتمع.

‎ومن خلال تنظيمها لأمسيات كهذه، تعمل الجمعية على تعزيز البيئة الحاضنة للأجيال، بحيث تبقى قادرة على الدفاع عن هويتها، بأساليب مبتكرة وخلاقة، في مواجهة التحديات التي تهدد تراثنا من ضياع وسرقة وانتحال.

‎ما شاهدته في الأمسية كان يفوق كل التوقعات، سواء من حيث التنظيم، أو الإتقان في الأداء والإخراج. شعر الحضور في القاعة وكأنهم أمام لوحة حية تتكامل فيها العناصر كافة، حيث أدهشني الانسجام وروح الفريق التي كانت أشبه بخلية نحل. الجميع يعمل بإصرار دون سعي أحد للظهور على حساب زميله، وربما كان هذا التناغم هو سر نجاح جمعية الحنونة وتميزها.

‎وفي تفاصيل العرض، قدم شباب الحنونة لوحات فنية متقنة، تعكس حياة البداوة والريف والبحر بأسلوب يمزج بين الماضي والحاضر. بعدها جاء السرد المثير لـ”سيرة سالم”، وهو شخصية تجسد كل شاب عربي يعدّ نفسه امتدادًا لأجداده، يعشق الأرض ويذود عنها بالغالي والنفيس. لم يكن العرض مجرد سرد قصصي، بل كان انعكاسًا حقيقيًا للروح العربية التي تجمع بين الأصالة والشموخ.

‎ولعل أجمل ما في هذه الأمسية؛ تسليط الضوء على دور المرأة في التراث، فقد ظهرت المرأة كشخصية متعددة الأدوار: الأم الحنونة، والزوجة الداعمة، والفلاحة المثابرة، والمرأة القوية السعيدة والمتفائلة. إن هذا الحضور القوي للمرأة في العرض، جسّد عظمة دورها عبر العصور، وأعاد التذكير بأنها كانت دائمًا ركيزة أساسية في بناء مجتمعاتنا وصيانة تراثنا.

‎وفي ظل هذه اللوحات الرائعة، لا يمكن إلا أن نتأمل حاجتنا الماسة اليوم إلى هذا النوع من الأنشطة الثقافية والفنية، خاصة في زمن امتلأ بفوضى الأفكار والمعتقدات. نحن بحاجة إلى شباب مليء بالطاقة والإبداع، ولكن الأهم أن تُوجه هذه الطاقة نحو أنشطة موجهة تعزز الانتماء للوطن والأرض والعروبة، وتسهم في إحياء تاريخنا المضيء، بدلًا من تركهم عرضة للأفكار المتطرفة التي لا تجلب سوى الخراب والدمار.

‎إن هذه الأنشطة ليست مجرد وسيلة للترفيه، بل هي صمام أمان يحمي هويتنا من الذوبان، ويوجه الأجيال الجديدة نحو الإبداع في مجالات متعددة، سواء في الرسم، والكتابة، والموسيقى، والشعر، والفن الفلكلوري. من خلال ذلك، نضمن استمرار تراثنا، ونغرس في نفوس أبنائنا وبناتنا حب الأرض والانتماء.

‎وفي الختام، لا يسعني إلا أن أوجه خالص الشكر والتقدير لجمعية الحنونة للثقافة الشعبية على هذا الجهد الرائع. لقد نجحوا في تقديم تجربة ثقافية فريدة، تعكس روح التراث، وتؤكد أن الثقافة الشعبية هي جسر يربط الأجيال ويعزز الهوية، لتبقى بلادنا حاضرة في وجداننا جميعًا، كما كانت عبر التاريخ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى