دين و دنيا

تزكية النفوس

كتب: القاضي الدكتور محمود أبو رمان
قد يجد الانسان نفسه بين ثنايا هذه الكلمات والسطور، ليساعد نفسه ليصبح على بصيرة ويراجع حسابه بنفسه قبل فوات الأوان.
من عظمة هذا الدين الكريم أن جعل عباداته مستمرة ، ننتفع بها من خلال خطبة أو كتاب أو موعظة ، فعلينا أن نؤمن بأن الله عز في علاه برمجنا على كمال أمّرَنا به، فان فعلنا الكمال وجدنا أنفسنا، ووصلنا إلى الراحة النفسية، التي لو وزعت على أهل بلد لكفته، وهو ما أطلقت عليه التوافق، أي أن تكون أفعالنا متوافقة مع فطرتنا، ونتأثر بكلام الله تعالى، بصدق القول والفعل. وقد أمرنا الله أن نكون من الصادقين، ونرعى العهد، وقد أمرنا سبحانه أن نفعل ذلك، وأن نرحم بعضنا، وقد أمرنا سبحانه وتعالى بالرحمة، لنصل الى شعور التجلي و السكينة والرضا، لأننا طبقنا منهج الله تعالى، وفي الوقت نفسه تصالحنا مع أنفسنا، فعلى الإنسان أن يحاور نفسه ليعلم أين هو.
الأسئلة التي نبحث عن اجاباتها!
لماذا لا يتأثر الناس بكلام الله الحق مع علمهم ويقينهم أنه الحق، ولا ينتفع كثير منهم بالمواعظ؟ لماذا لا نجد العزم على الإصلاح واتخاذ الاجراءات اللازمة والصحيحة التي ينبغي التصدي لها، استجابة لأمر الله فيما ينفع العباد والبلاد؟
يقول ابن الجوزي في كتابه صيد الخاطر: قد يعرضُ عند سماع المواعظ للسامع يقظة، فإذا انفصل عن مجلس الذكر عادت القسوة والغفلة! فتدبرت السبب في ذلك فعرفته. ثم رأيت الناس يتفاوتون في ذلك
فالحالة العامة أن القلب لا يكون على صفته من اليقظة عند سماع الموعظة وبعدها لسببين: أحدهما أن المواعظ كالسياط، والسياط لا تُؤلم بعد انقضائها، وإيلامها وقت وقوعها.
أما الثاني أن حالة سماع المواعظ يكون الإنسان فيها مزاحُ العلة، قد تخلى بجسمه وفكره عن أسباب الدنيا، وأنصت بحضور قلبه، فإذا عاد إلى الشواغل اجتذبته بآفاتها فكيف يصح أن يكون كما كان؟
إلا أن أرباب اليقظة يتفاوتون في بقاء الأثر: فمنهم من يعزم بلا تردد، ويمضي من غير التفات، فلو توقف بهم ركب الطبع لضجوا كما قال حنظلة عن نفسه: “نافق حنظلة” . ومنهم أقوام يميل بهم الطبع إلى الغفلة أحياناً، ويدعوهم ما تقدم من المواعظ إلى العمل أحياناً، فهم كالسنبلة تُميلها الرياح. وأقوام لا يؤثر فيهم إلا بمقدار سماعه كماء دحرجته على صفوان.
ويضيف الراغب الاصبهاني في كتابه (تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين) عن حال الإنسان بكلام دقيق ومهم، وهو أن في ارتداد الناس من طريق الخير والشر للإنسان فيما يتحراه من الخير والشر حالتين: حالة يتمكن فيها من الارتداد على أدباره فيما يتعاطاه إن خيراً وإن شراً، وذلك قبل أن يمعن في سيره ويتناهى في ممره.
وحالة يتعذر عليه الارتداد على أدباره، بل لا يكون له سبيل إلى الرجوع، وذلك إذا أمعن في سيره وتناهى في ممره.
وذلك أن كل من كان متعاطياً لفعل خير فتكاسل عنه، ومتعاطياً لشرٍّ فلم يقلع عنه، أورثه كسله ضيق صدر بتحري الخير كما قال الله تعالى: (فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ۖ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ۚ كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ )
وانشراح صدره بفعل الشر كما قال تعالى: (أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا ۖ فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ.)
فإن استمر على ذلك ولم يقلع، أورثه ذلك رَيْنا على قلبه كما قال الله تعالى:( كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ).
فإن تمادى في ذلك واستمر أورثه ذلك غشاوة، كما قال تعالى: (كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ). فإن ازداد أورثه ذلك طبعاً وختماً، كما قال تعالى: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
وقوله تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ). فإن ازداد صار ذلك قُفلاً كما قال الله تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا). ثم إذا تمادى صار قلبه موتاً قلما ترجى له حياة فلا تنفعه الآيات والنذر كما قال الله تعالى: (فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَىٰ وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ)
وهذا ما أخبرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ” إنَّ المؤمنَ إذا أذنب ذنبًا كانت نُكتةٌ سوداءُ في قلبِه، فإن تاب، ونزع، واستغفر صقَل منها، وإن زاد زادت حتَّى يُغلَّفَ بها قلبُه “
وفي خبر آخر أن عليًّا بن أبي طالب قال: ” الذنب على الذنب حتى يسود القلب فلا تُرجى له الإنابة “.
وكذا حال الإنسان فيما يتعاطاه من فعل الخير، فإن من صبر في اقتراف الحسنة أورثه صبره حسناً كما وصف الله به الصابرين في مواضع من كتابه قال تعالى: (وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ).
فإن استمر في ذلك بعض الاستمرار اهتز ونشط وانشرح به صدره كما قال تعالى: (فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ).
فإن دام على ذلك امتحن وتطهر قلبه كما قال الله تعالى:( أُولَٰئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ ۚ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ).
ويكون كما وصفه في هذه السورة: (وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ).
فإن تزايد في فعله انضم إليه من الله تعالى باعثٌ يهزه وداع يبعثه عليه كما قال الله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ).
فحق الإنسان ألا يسامح نفسه في الاجتهاد وألا يخلّ بخير تعوّده ولا يرخص لها في شر ارتكبه، فتعاطي صغير الذنب يفضي إلى ارتكاب الكبير، والإخلال بقليل الخير يؤدي إلى الإخلال بكثيره.
اللهم انفعنا بما علمتنا، واجعلنا من أهل العزم بلا تردد، وامنن علينا من فضلك، واستعملنا في طاعتك.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى