محليات

يوم العلم الأردني.. ذاكرة الوطن وسيرة أبطاله

قبل مئة عام بالتمام والكمال، تزينت المدارس والمباني الحكومية والميادين في مدن الوطن بالعلم الأردني؛ الراية التي اختزلت حضارات وأمجاد العرب خلال مئات السنين، ويعتز به الأردنيون ويحتفون في اليوم الوطني للعلم في السادس عشر من نيسان في كل عام.
اليوم الذي أقره مجلس الوزراء العام الماضي بالتزامن مع احتفالات مئوية الدولة الأردنية، يرسخ علاقتنا بالعلم الممتدة في الذاكرة الجمعية التي أرّخت لانتصارات العرب المسلمين على مر التاريخ، ووصفه الشاعر صفي الدين الحلي (1277 – 1339 م) بقوله: “بيــض صنائعنا سود وقـائعـنا/ خضر مرابعنا حمر مواضينا/ لا يمتطي المجد من لم يركب الخطرا/ ولا ينال العلا من قدم الحذرا”، الألوان الأربعة للعلم الأردني مضافا إليه كوكب أبيض سباعي الأشعة.
لواء يشير إلى هوية وطنية ضاربة في الأعماق أساسها يعود إلى الأمويين الذين رفعوا البيض رايتهم وهم ينشرون الإسلام؛ عماد الحضارة وعنوانها من الهند إلى الأندلس، والعباسيين الذي رفرفت راياتهم السود في بلاد ازدهرت بالعلوم والصناعة والفنون والعمارة والأدب، وآل البيت الذين ثبتوا على مبادئهم وقناعتهم ولم تغرهم الحياة برايتهم الخضراء وعباءة الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم)، والأحمر راية الهاشميين الذين يمثلون كرامة العرب وحريتهم، وهي المثلث الذي يجمع الأشرطة الثلاث السابقة تتوسطه النجمة السباعية التي تدل على فاتحة القرآن الكريم السبع المثاني (سورة الفاتحة من سبع آيات).
في العاشر من حزيران عام 1916، أطلق قلة من الرجال المخلصين الثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف الحسين بن علي، وهم يحملون العلم الذي زرعوه في مدن الحجاز قبل أن يتوجهوا شمالا عبر مدن الأردن وصولا إلى دمشق، في مواجهة مفتوحة ضد الهيمنة العثمانية من أجل تأسيس نهضة عربية تستعيد كرامة الأمة العربية وعزتها.
بايع رجالات الأردن وبلاد الشام المغفور له بإذن الله الحسين بن علي وأبنائه، لتتأسس المملكة العربية السورية عام 1918، ويرفع علم الثورة الكبرى في جميع أنحاء سورية ولبنان وفلسطين والأردن وأجزاء من العراق في دولة نشدت الرفعة والمنعة والوحدة لكل العرب، لكن أطماع الاستعمار وأدت أول مشروع وحدوي عربي في العصر الحديث كان الهاشميون طليعته ورافعته السياسية والوطنية.
على الدرب سيحمل الأردن الراية معلنا ميلاد إمارة هاشمية على أرضه مع مبايعة المغفور له الملك المؤسس (الأمير آنذاك) عبد الله الأول بن الحسين في 11 نيسان عام 1921 أميرا عليها، وترفع راية الثورة العربية الكبرى قبل أن يتبدل موضع اللونين الأبيض والأخضر، ويعلن عن علم أردني تخفق ألويته عام 1922، قبل أن ينص الدستور على مادة خاصة به عام 1928، يرد فيها أن طول العلم الأردني يأتي ضعف عرضه، وينقسم إلى ثلاث قطع متساوية متوازية؛ العليا سوداء والوسطى بيضاء والسفلى خضراء وضع عليها من ناحية السارية مثلث أحمر قاعدته مساوية لعرض العلم وارتفاعه مساو لنصف طوله، وفي هذا المثلث كوكب أبيض سباعي الأشعة مساحته مما يمكن أن تستوعبه دائرة قطرها واحد من أربعة عشر من طول العلم، وهذا الكوكب موضوع بحيث يكون وسطه عند نقطة تقاطع الخطوط بين زوايا المثلث، وبحيث يكون المحور المار من أحد الرؤوس موازيا لقاعدة هذا المثلث.
ينظر إلى العلم بوصفه جزءا لا يتجزأ من عملية بناء الأمة، ويشير إلى ذلك الشعور المتنامي بالوطنية بين الناس، ويكثف إحساسهم بجملة من الرموز والعلامات والألوان ويمنحها معان ودلالات متراكمة مع الأيام، ليحفظ ذاكرتهم الوطنية حيث يسجل الأردنيون وقائع لا تمحى كان العلم خفاقا مع انعقاد المؤتمر الوطني الأردني الأول في 25 تموز عام 1928، وشارك فيه أكثر من مئة وخمسين شخصية من رموز الوطن، أكدت على اعتبار الشعب مصدر السلطات والمحافظة على مصالح الأمة.
العلم نفسه رفعه الأردنيون مع إعلان استقلال المملكة الأردنية الهاشمية في 25 أيار عام 1946، الذي كرس سيادتهم على الأرض، وانتهاء الانتداب البريطاني الذي دام نحو خمسة وعشرين عاما ومبايعة عبد الله بن الحسين ملكا على البلاد، ويكتب يوما تاريخيا في صفحة الأردن في موعد مع التحديث والتطوير والكرامة.
وعلى أرض فلسطين، بذل الجيش العربي الغالي والنفيس حفاظا على مقدساتها في معارك خلدها التاريخ ورفع فيها العلم الأردني، بدءا من معركة باب الواد عام 1948 التي صدت التقدم الصهيوني باتجاه القدس، وارتقى عشرات الشهداء الأردنيين دفاعا عن أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين.
وفي 21 آذار عام 1968، ذاد الجيش العربي من جديد عن الحمى في معركة الكرامة التي سطرت بطولات استثنائية في مواجهة الجيش الذي لا يقهر، ليكتب الأردنيون انتصارا يوثق في سجل انتصاراتهم، ويلوحون بعلمهم العالي الذي لم يسقط من أيديهم في المعركة وظل مرفوعا مضمخا بدماء الشهداء وجهود الأحياء.
وعلى امتداد أكثر من خمسين عاما، تمسك جنود الأردن بواجبهم في معارك عديدة حفاظا على الأوطان في مواجهة الأعداء منذ مشاركته في حرب تشرين 1973، ومرورا بحروبه ضد قوى التطرف والإرهاب التي استطاع أن يجنب الشعب الأردني والشعوب العربية أخطارا وكوارث كبرى، وانتهاء بدوره الأساسي والمهم في مواجهة وباء كورونا منذ حوالي سنتين، وفي كل تلك الموقعات ظل العلم الأردني شامخا في أمجاده.
وعلى امتداد مئة عام، مجد الشعراء راية الأردن التي لم تنكسر يوما، حيث يقول الشاعر ورئيس الوزراء الأسبق عبد المنعم الرفاعي “خافق في المعالي والمنى/ عربي الظلال والسنا/ في الذرى والأعالي فوق هام الرجال/ زاهيا أهيبا/ حيه في الصباح والسرى/ في ابتسام الأقاح والشذى/ يا شعار الجلال والتماع الجمال/ والإباء في الربى”.
ننظر اليوم علمنا الذي خضبت حمرته دماء الشهداء وأروت خضرته قطرات الندى ممزوجة بعرق فلاحيه، وعتقت سواده علامات الجد على محيا أبناء الأردن وإخلاصهم لماضيه ومستقبله، وأظهر بياضه قلوب محبة نقية تحلم بوطن حر وتموت من أجله.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى