الراجحي يكتب : وسط البلد في عيون (الأردني الكويتي)
أ.د. مناور بيان الراجحي
أستاذ الصحافة والإعلام بجامعة الكويت
البلدة القديمة
في الشهر الماضي وطأت قدماي أرض النشامى الأردن الحبيبة التي أحبتني وأحببتها تلبية لدعوى الجامعة الهاشمية للمشاركة في مؤتمر مئوية الدولة الأردنية، وها هي الشمس تشرق على وجنتي وأرى خيوطها الذهبية تتغلغل في أركان المطار ليشرق معها وجوه كل نشمي ونشميه العاملين في مطار الملكة علياء الدولي، ما أكرمه من شعب وما أسهلها من إجراءات، فقط بضعة دقائق وحقيبتي بيدي خارج المطار ليستقبلني صديقي الوفي الذي هلا ورحب بصوت عال: “هلا بابن الاردن وحبيبها”، وبعد تبادل التحيات استقلينا سيارته لنبدأ مشوار ذكريات عشقي وهواي، تجاذبنا أطراف الحديث طوال الطريق، وانتهى بنا الأمر أن قررنا تناول طعام الإفطار في وسط البلد، وبعد الاتفاق على المكان وقع اختيارنا على أقدم مطعم بمنطقة القلعة، فهنالك سنتناول إفطارنا متربعين على عرش التاريخ العظيم لهذه المدينة (عمان – وسط البلد)، انطلقنا سائرين بسيارتنا مجتازين انحدارات تلك المنطقة، متأملين جمال الطبيعة وعبق الزمان الذي يفوح من أروقتها، أخبرني رفيقي بنبذة خفيفة عن عمان القديمة بنكهة الحمص والفول والفلافل الطعم الأصلي، فلم أكن مترددا بقبول الدعوة لهذا المكان، بل وافقت بسرعة ولبيت الدعوة بفرح وشوق لتاريخ هذه المدينة. والجميل بالأمر أنك ترى تراسيم الوجوه العمانية بكل وجه تلمحه فتراهم بملامح القلعة الشامخة وخطوط تعابيرهم كأنها المدرج الروماني بانحناءاته الصلبة بكرامة وعزة، فخطوط الوجوه نفسها على الجميع، والكلمات المنطوقة بين الأهالي نفسها، وتكاد تكون محصورة ببعض كلمات يتهافتون بها على بعضهم البعض، اذكر منها (هلا هلا، حياك الله، يا زلمة أبشر..) كلمات تبعث السعادة وتوحي لك أن الدنيا لا زالت بخير مع نبضات قلوب هؤلاء السعداء حد السماء، البسطاء في العيش حد العزة والأنفة.
وصلنا وجهتنا، أوقفنا سيارتنا بإحدى الأزقة متجهين إلى ذلك المطعم المنشود الذي اعتقدت أنه منمق بالحداثة كون مرتاديه كُثر، سرنا بالممر الضيق صعودا والمحاذي للشارع وقد أحنينا رؤوسنا خوفنا من أن نجرح أغصان الشجر الحاني على بعض الدرجات التي كان نصفها مهشما والنصف الآخر مغطى بأوراق ذلك الشجر. هذه الأدراج التي أرهقها مسيرنا على ظهرها والصوت المتناغم مع سحق أحذيتنا أوراق الشجر يبعث من الحياة حياة لأمم قد سلفت واستوطنت هذا المكان وصعدت ونزلت على هذه الدرجات ذاتها، فيخيل الي للحظه أنه قد يصدف أن يتطابق موطئ قدمي مع آلاف مواطئ الأقدام على الدرجة نفسها، مع اختلاف الزمان واللهجة والزي والعمر والجنس، أشعر أنني أشاهد وأشتم رائحة من مر من هنا، أتخللهم ويتخللوني بشفافية الأرواح، إنه إحساس عال بالجذور وعمق المكان، وتنتهي الدرجات فيأخذنا بريق العتيق ولا أرى سوى مطعم أقل من البسيط تكلفة وشكلا بكثير يفترش أطراف الرصيف الضيقه ليصنع عالمه من الطاولات والكراسي، وأنا في صمت من سحر المكان وذهول مطبق على شفتي جاحظ عيناي، يختار مضيفي الطاولة التي ستناول افطارنا عليها وبصمت المسحور جلست، تركته يختار لنا إفطارنا، وبينما هو يحاور النادل في نوع الطعام محدود الاختيارات وليس غيرها على القائمة أصلا (حمص، فول، فلال، بريق شاي)، بهذه الأثناء سلبتني روحي من يدي وأخذتني تطوف بي بالمكان فاستوقفني أنا وروحي ما أطلقت عليه “الجدار البالي”، بقايا لمنزل وبابه الموصد بإقفال حديدية صدئة، لابد أنه كان منزلا فاخرا – نوعية هذا الخشب، وهذا الديزاين – خُيل إلي أنني أقرع هذا الباب، وكأني أسمع صوتا من العمق يناديني من بالباب؟ ولا أجيب، فقط أنا مذهول، فيفتح الباب لي من السراب ويطل علي طفل بابتسامته البريئة ويقول: “من أنت يا عم؟” وما هي إلا برهة ثم يتبعه صوت امرأة، قد تكون أمه، تنادي: من بالباب يا ولدي؟، وتطل علي بوجهها الصبوح وملائتها البيضاء تغطي رأسها وثوبها العماني المطرز بألوان جبال عمان وتلالها وبسحر المكان تبتسم وتقول: “يا حي الله، حنا خوات رجال “تفضل”، “تفضل على المقسوم” – “تفضل على المقسوم”….. تكررت… تكررت …. وما أن صوت صديقي ينبهني، مناور!!!
أنا: اووووه يا صديقي أعتذر، فقد سرحت.
صديقي: وين سرحت يا دكتور؟
أنا: هههههه سرحت في أهل هذا البيت.
صديقي: كيف؟ هذا البيت مهجور منذ قرون!
أنا: آااااااه يا صديقي ما أجمل الطفل وما أجمل أمه وجهان يانعان اشتممت عبير الزيتون والدحنون فيهما .. آااه يا عمان القديمة ما أجملك.
صديقي: خيالك رهيب يا أبا طلال، فهذا الباب باب خشبي مهترئ لمنزل قديم جدرانه آيله للسقوط، وأنت يا دكتور تراه حيا يرزق نابض بالحب والحياة… أمرك عجيب يا دكتورنا الفاضل.
أنا: هههههه لنتناول طعام الإفطار الشهي يا صديقي.
كان فعلا أجمل إفطار تناولته منذ فترة طويلة، فبكل لقمة أتذوق المكان وأشتمه.
وبعد هذه الجلسة الممتعة والإفطار الشهي.. قررنا السير على الأقدام بوسط البلد العماني سرنا أنا وصديقي من ناحية وأنا وروحي من ناحية أخرى، فبتنا نطوف ونحج ونعتمر في قداسة المكان .. جميل .. جميل … هذا ما كنت أستطيع أن أقوله وأنا أتلفت يمينا ويسارا وعيوني تتمسح بالأماكن مبهورة وروحي منتشيه، المكان الجميل حد الجمال والعظيم حد العظمة، وكان لي بعض الانتقادات عليه فتلك الشوارع كنت أتمنى أن تأتي عصى سحريه وتخفي جميع السيارات من كل الشوارع وتصبح الشوارع ممرات مشاه فقط كي يستمتع المارة بمشاهدة المشاهد الجميلة في المكان، فزحمة السيارات جدا مزعجه لعل وعسى أن يكون لوزارة السياحة سطوة في تغيير سير السيارات وتحويل مساراتها خارجا عن قلب القلب، فقلب عمان يجب أن لا يعج بعوادم السيارات وإزعاج الزوامير، إضافة لعدم وجود حمام عمومي واحد يخدم هذه الجماهير الغفيره المرتادة لهذا المكان العظيم، لقد عانيت كثيرا في البحث والسؤال عما إذا كان هنالك حمام عام؟ ولم أجد، هذا ما أسميته – صدمة على صخرة – فكيف بمثل هكذا بقعة جميلة عظيمة ومضيئة في قلب العاصمة أن لا تقدم أبسط المتطلبات الإنسانية (دورات مياه) تسهل على الأشخاص سياحتهم واستمتاعهم بالمكان.
وأثناء التنقل من منظر جميل إلى آخر كانت محطتنا الأخيرة في مكان رائع كروعة صاحبه، إنه يا سادة (متحف آرمات عمان) لصاحبه الخطاط المذهل غازي خطاب، الذي جمع تراث الماضي ليجعله بين أيدينا وأمام أعيننا، لقد أبحرنا مع غازي وقصته الجميلة التي بدأ في تكوينها قبل أربعين عاما، ليكون اليوم معلم من معالم المدينة العريقة (عمان)، فالعمل البسيط جعل الكثير من الناس يبحثون عن ماضي أجدادهم بين تلك الآرمات الجميلة، فعلاً يستحق منا الشكر السيد خطاب على ما قدم لنا شرح واف للمكان وأهميته، ولا أخفي عليكم فهو أجبرنا عى تناول القهوة بعد أن قدم لنا الكنافة وبعد السماح لنا باستخدام دورة المياه التي قادتنا إلى هذا المكان الرائع كروعة صاحبه.
وها أنا اليوم أغادر أرض النشاما بترحاب كما قدمت لها بترحاب، عاود يا رجل عاود لا تغيب عنا، الله محلاه من استقبال وما أعظمه من وداع، فقلت وأنا ملوح بيدي، رمضان عندكم بصومه يا صديقي البهي، وأنتم يا سادة بلغوا وزارة السياحة بطلبي على وعسى يسمعون ويجيبون.
(اللهم أحفظ سماء وأرض الأردن وشعبها ومليكها و ولي عهده الأمين