عبدالله خازر
كلمات معدودات، تحت عنوان “حكمة مؤثرة”، طرقت بها مسامع مستخدمي التواصل الاجتماعي، لم أتوقع يصل مداها هذا الحد، بعد أن أصابت حروفها من أصابت، لم أنتظر الرد، لكنه سرعان ما جاءني، موحيًا من يطرق الباب فليسمع الجواب، وليدع الكلام المعسول عنه و”هندسته” جانبًا.
الحكمة، اختزلت بين سطورها آلام لا يعلمها إلا الله، وفتحت جراحًا لم تندمل بعد!، أعتذر لأصحابها فلم أقصد ذلك، إنما قصدت توخي الحذر فيمن نخالل ونصاحب، لأنه كما يقال “الصاحب.. ساحب”، مصداقًا لقوله تعالى: } الإخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين{، وتأسيًا بسنة نبيه الحبيب: “لا تصاحب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلا تقي”، و”المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل”، و”المرء مع من أحب”.
لم تكن الحكمة من تأليفي من باب الأمانة والمصداقية، وتلاعبت بمفرداتها لتبدو حديثة، وأهديتها للعامة بقالب جديد، وكانت: “عندما نبالغ في التقدير والاهتمام بأحدهم، نعطيه فرصة للتكبر علينا شيئًا فشيئا، نحن من نزرع الغرور في نفوس البعض، من خلال تعاملنا معهم”، وذيلتها بنصيحة من واقع التجارب المستوحاة من الحياة، مفادها، “كن حذرًا، ليس كل ما يلمع ذهبًا، كثيرًا ما ننخدع ببريق الأشياء وجمالها من حولنا، فنلهث وراءها، ونتطلع للحصول عليها، معتقدين أنها من النفائس والدرر، وعند الاقتراب نجدها لا شيء، فيصدمنا زيفها وألوانها الباهتة، ونتمنى لو أننا أكتفينا بمشاهدتها عن بعد…”.
فجاءت بتفاعل غير مسبوق، ممن لا يزال الجرح يؤلمه، فحاولت بعفوية التخفيف من وقعها قدر المستطاع، علّي أضمد بعضها، مذكرًا من يتأوه بالبيت الشعري القائل: “لا تشك للناس جرحًا أنت صاحبه لا يؤلم الجرح إلا من به ألم”.
جراح مكلومة، تبكي ماضيها، وحاضرها، ومستقبلها، هكذا جاءت ردود الأفعال، كانت بداية من صديق سوداني يدعي “أحمد”، فهو صاحب الرصاصة الأولى إن جاز التعبير، حيث عبر سريعًا عما يعتصره من ألم، ثم توالت الردود تباعًا، لا يسعني ذكرها، والحديث عنها يطول، لكنها في السياق ذاته.
هذه الكلمات لامست جراحًا لم تلتئم، بسبب هذا أو ذاك من البشر، ممن تعلموا فن الطعن في الظهر، فكانت “الأنانية” شعارهم، و”الانتهازية” وسيلتهم، لا لسبب مقنع، إنما كنوع من رد الجزاء لصانع المعروف، على ما قدمه من حسن استقبال وكرم ضيافة، المهم أن نتعلم من أخطاء الماضي.
لم يخطر ببالي يومًا أننا نعيش في عالم تحكمه “الضغائن” لهذه الدرجة، وتتحكم الماديات بكافة جزئياته، وتحرك مشاعره وعواطفه، يحدث هذا فقط عندما يفكر الشخص بذاته، ويفر من أمه وأبيه، وصاحبته وأخيه، وعشيرته التي تؤويه.
لا نقف ضد مصلحتك، فهذا من حقك طبعًا، ولكن لا تستغل مشاعر الآخرين وطيبتهم لبلوغ حاجتك، ومن ثم التنكر ومقابلتهم بالجحود، وهنا خطرت ببالي قصة، لحكيم سأل أعرابيًا، هل تعرف فلانًا؟، فقال: نعم، قال له الحكيم، هل رافقته في سفر؟، فقال: لا، فقال له إذًا لا تعرفه، مغزى هذا الاستشهاد هو أن الغربة وحدها كفيلة في كشف معادن البشر وتعرية عيوبهم.
الخطأ كل الخطأ أن ننجذب وراء مظاهر مزيفة وخداعة، ونكتفي من خلالها بالحكم على الأشخاص، ولأننا في زمان يصعب علينا التميز فيه بين الصالح والطالح، وبين الغث والسمين، وبين الحابل والنابل، أدعوك لتدبر قوله تعالى: }يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولًا سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا{.
حث ديننا الحنيف على صحبة الأخيار وملازمتهم، ونهى عن صحبة الأشرار ومجالستهم، لقوله عز وجل: }ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا وأتبع هواه وكان أمره فرطًا{، في زمن المظاهر الكذابة، قد ننبهر أحيانًا بأناس غير أهل للانبهار أو الإعجاب، ولا يستحقون النظر إليهم أصلًا، قد يبهرنا حديثهم، وتصدرهم المجالس، وكأنهم سلاطين زمانهم، ننبهر ببريق حديثهم (تصنعًا وتكلفًا وسجعًا)، ونكتشف بعد فوات الأوان زيف حضورهم.
فكم منا من فتن بـ(سين) من الناس، غره تعدد ثقافاته، وجمال منظره المستعار، وتصور خطأ أنه يعانق الكمال والمثالية، لا عيوب فيه، ملاك طاهر، من أخير الناس وأتقاهم، ليس كمثله شيء، لكنه في الحقيقة بشر، حاله حالك، له مساوئ ومثالب، يصيب ويخطئ، غير منزه أو معصوم، فأحذر قبل أن تقع الفأس بالرأس، ودعوني أذكركم بالحديث الشريف: ” إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم”.
هذه هي الحياة بإرهاصاتها ومنغصاتها، فأمام كل صعود هبوط، ومقابل كل نجاح فشل، ولكل جواد كبوة، فلا تجعل من نكرانك للمعروف سببًا لكبوتك، التي لن تقوم بعدها أبدًا، مهما بلغت قوتك وشهرتك، “فخير الناس أنفعهم للناس” -كما قال الحبيب صلوات ربي عليه وسلم- و”خيركم من طال عمره وحسن عمله”، جعلنا الله وإياكم منهم، “آمين”.
ما أن تقترب من أحدهم تندهش بأن جمال مظهره خلفه قبح مذموم، وحلاوة كلماته بين حروفها سم الثعبان، إنهم ممن “يقولون ولا يفعلون”، “يأمرون بالبر وينسون أنفسهم”، ويقابلون “الإحسان بالإساءة”، “الحب بالغدر”، “الطيبة بالخبث”، “الخير بالشر”، مصداقًا لقوله تعالى: }كبر مقتًا عند الله أن تقولوا ما تفعلون{، ولقوله صلى الله عليه وسلم: “يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقباب بطنه (تخرج أمعاؤه)، فيدور كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع عليه أهل النار، ويقولون، ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر، فيقول: بلى، ولكن كنت أمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه”، نعوذ بالله أن نكون منهم.
الجمال الحقيقي، هو جمال الأخلاق والفكر والروح، لا تغرك المظاهر، فلا نملك نظارات سحرية تكشف لنا سرائرها، علينا أن نحتاط عند اختيار أصدقائنا، ونحكم عقولنا لا عواطفنا ومشاعرنا!، فالحياة تجارب، نأمل أن تتعلم منها الدروس!، ولنا في (هبيل وقابيل) العبر.
الردود، استرعت انتباهي واستوقفتني، وذكرتني بجراحي وببيت من الشعر، خطه أخي المرحوم (سامر)، قبل 3 عقود ونيف، على جدار جدي العتيق، يقول فيه: “تموت الأسود في الغابات جوعًا… ولحم الضأن تأكله الكلاب”.
مسك الختام، إن كان عندك هم فلا تبوح به إلا لله، ولا تقل: “يا رب عندي هم كبير، ولكن قُل: يا هـم عندي رب كبير”، وتذكر شكوى نبي الله يعقوب عليه الصلاة والسلام، حينما بث حزنه وشكواه إلى الله، فقال: (إِنما أشكو بثي وحزني إِلى اللَّه).
ولا تجعل من حبك للدنيا سببًا لإيذاء مشاعر الآخرين، فإن كنت لا تملكها، فغيرك لا زال يحتفظ بها، خماصًا غدونا من ديارنا فهل سنعود إليها بطانًا، الدنيا لا تعدل عند الله جناح بعوضة، فلا تخسر آخرتك ودينك وصاحبك لأجلها، و”لا تكن كالذي يفكر في الدجاجة ليملأ بطنه، ولا يفكر بمن يوقظ فكره وعقله (الديك)”.
فـ”هندسة الكلام” واختيار أطايبه، أمر جيد، ولكن إياك واستغلاله لمآربك، فكم من ألسُن تجيد حياكة العبارات الساحرة الرائعة، التي تسترق الآذان، وتطرب لها الأسماع، ويكمن وراءها نوايا خبيثة، وأخلاق فاسدة، وضمائر وقلوب وذمم خربة، إن لم تكن ميتة!. لا نعمم، كلنا كالقمر له جانب مظلم، تعلم دومًا أن المهزوم إذا ابتسم، أفقد المنتصر لذة الفوز، لنتعالى على جراحنا ونسمو فوقها، ولكن كيف ويتراقص الآخرون طربا عليها؟، إن كان عندكم من جواب أفيدونا علّنا نستفيد من تجاربكم.
مستشار إعلامي