“بادر” .. قبل أن تغادر!
عبدالله خازر
ما لنا وما للدنيا؟، علام يكثر عتابنا ويطول!، وما نحن إلا عابري سبيل، أو كما قال المصطفى صلوات ربي عليه وسلم: “راكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها”، أعمارنا بين “الستين والسبعين”، فليس فيها ما يدعونا إلى الحرص عليها، فالحياة تجربة سيئة يرتكبها الميت كل يوم!، مهما تفوقت بها.. لن تخرج منها إلا بـ “شهادة وفاة”، فـ “اعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا”، وهذا ليس بحديث نبوي من باب التذكير.
ولإن دوام الحال من المحال، فلسنا مخلدين بدنيا لا تعدل عند الله جناح بعوضة، لقوله تعالى: } وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍۢ مِّن قَبْلِكَ ٱلْخُلْدَ أَفَإِيْن مِّتَّ فَهُمُ ٱلْخَٰلِدُونَ{، فهم كثيرون “اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا”، بأنهم خالدون مخلدون، فأين هم ملوك الأرض والأباطرة؟.
سيأتيك وستأخذ منها كل ما تريد، وما لا يأتيك اليوم قد يأتيك غدًا، فلمَ يقتل بعضنا بعضا؟!، وخزائن ربنا ملأى لا تنفد، لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: “لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في البحر”.
}مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ بَاقٍۢ وَلَنَجْزِيَنَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُوٓاْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ{، فالزهد في الدنيا، والاهتمام بعمارة الأرض فيما يرضي المولى عز وجل، والاستعداد للآخرة بالعمل الصالح والمبادرة بذلك أمر مرغوب ومطلوب، يهدم الكثيرون منا حياتهم في أوقات فراغهم، فلا تكن أمثالهم، اغتنم آخرتك، وواجه الصعاب بتقوى الله، فهو سر النجاح، إذا كنت تحب السرور فأعتنِ بصحتك، وإذا كنت تحب السعادة فاعتنِ بخلقك، وإذا كنت تحب الخلود فاعتنِ بعقلك، وإذا كنت تحب ذلك كله فاعتنِ بدينك.
لمَ الرغبة في الدنيا والتشبث بها وعلى ما فيها من ملذات وشهوات، وكل ما تريده لن يفوتك تحصيله بترك الحرص عليه، فبادر قبل أن تغادر، لا تتهاون، قدّر كأنك تموت غدًا، بل قبل غد؛ لأنك لا تدري متى يأتيك الموت، فـ “إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك”.
من حق الحياة علينا أن نؤمن بالاستقامة قبل البدء بالعمل، فما أثمر كفاح لازمته الخطايا، دعها تكتبك، واتركها لتقرأك، بعدها اقرأها جيدًا، فهي هبة وليست حق، وتذكر نعم الخالق عليك، التي لا تعد ولا تحصى.
قد تتعثّر بنا الحياة، لذا واجهها بما أوتيت من قوة وشجاعة وأمل، فأكثر الناس ينتظرون شيئًا ما ليتغيروا، وآخرون يتغيرون أو تتغير أدوارهم فيها، عندما تحدث لهم صدمة، فلما تنتظر ذلك أنت؟.
وأعظم تغير ذاك النابع من التأمل في مخلوقات الله، فستعيش الحياة بشكل أفضل إذا وازنت بين أفكارك ومشاعرك وعواطفك، }وما هذهِ الحياةُ الدنيا إلا لهوٌ ولَعِبٌ وإنّ الدارَ الآخرةَ لَهِيَ الحيوانُ لو كانُوا يَعلمونَ{، وما تحصل عليه في دنيا مثل هذه لا قيمة له مقابل ما وعدك به سبحانه وتعالى، وإن لم تفشل فلن تعمل بجد، فالفشل هزيمة موقتة تتيح لك النجاح والفلاح، والهروب هو السبب الرئيس للفشل، والإجابة الوحيدة على الهزيمة هي الانتصار، فلا تخسر آخرتك، وأقلها ابتسامة لا تكلفك شيئًا، لكنها لغيرك تعني الكثير.
لا يستطيع أحد أن يدّعي أنه عاش الحياة، ما لم يجرب فَقْدها، وكثيرها مثل قليلها، ونحن في غفلة أيامها قليلة كلمح البصر!، والعمر لا يقاس بالسنين، إنما بالقدرة على فهم الآخرين، فكم من كبير لا يعي ما يقول؟، وكم من صغير يدرك ما يقوله الكبير؟، فهناك مسن لا يجيد إلا لغة الصغار، في المقابل نجد صغارًا يجيدون لغة الكبار، فالحياة حلم يوقظنا منه الموت، نبحث في نصفها الأول عن الشهرة، وفي نصفها الثاني عن الداء والدواء.
نحن في جهاد مع النفس، البعض فيها يقود، والبعض يقاد لشهواته ونزعاته، فإن لم تستطع أن تكون سيدًا لنفسك، فلا تكن خادمًا للآخرين، كن متأكدًا أن الآخرين لا يفهمون استقامتك كما تفهمها أنت، والمفرطون في دينهم يرونها تشددًا، لا تتذمر من سوء ظنهم، تأكد بأنها مشكلتهم، وليست مشكلتك، فعثرات الحياة ليست ضدك، بل هي لأجلك، لتعي ما هي الحياة، لتفهم مواقف لم تكن تفهمها، لترى أشياء لم تكن تراها، فالعالم يعج بالممثلين، في كل زاوية منه تجد ممثلًا، أحدهم جاهل يدّعي المعرفة، وآخر ظَالم يتحدث عن العدل، وآخر خبيث يتصنع الطيبة، فالعالم مسرح ضخم!.
وتذكر دومًا لا أحــد يســتطيــع إهـــانتــك إلا بمساعدتك، ولا تجادل الأحمق فقد يخطئ الناس في التفريق بينكما، واللسان الطويل دلالة على اليد القصيرة، نحب الماضي لأنه ذهب ولو عاد لكرهناه، ومن يطارد عصفورين يفقدهما جميعًا، قد يجد الجبان 36 حلاً لمشكلته ولا يعجبه سوى حل واحد وهو الفرار، والفشل في التخطيط يقود إلى تخطيط للفشل، وأقــدام متــعبــه وضميــر مستريــح خيــر من ضمير متـــعب وأقدام مستريحة.
وفي هذا المقام يقول ابن الجوزي رحمه الله: “القلب المطمئن أعظم من القلب السعيد، لأن السعادة وقتيه، والطمأنينة دائمة حتى مع المصيبة، ومن أعظم أسبابها ذكر الله”، (ألا بذكر الله تطمئن القلوب).
شراء لحظة واحدة “الآخرة” بكل الحياة، يعده البعض ضربا من الخيال والجنون، لكنه جميل، فاللحظة أثمن من حياة ممتدة في وحل العجز والمهانة، نحب الحياة لأننا نعشق الحرية، ونحب الموت متى كان طريقًا إلى الحياة، فلست خائفًا منه، فقف دون دينك في الحياة مجاهدًا، تصفو الحياة لجاهل أو غافل. الأيام لا تعود!، وعامل أخيك في الله إن لم تنفعه فلا تضره، وإن لم تفرحه فلا تغمه، وإن لم تمدحه فلا تذمه، فبين الحين والآخر نحتاج أن نكون كالخريف، ندع ما يقلقنا ويؤلمنا يتساقط، لنفسح المجال لربيع قادم، لنصلح قلوبنا جميعًا قبل أن يأتي }يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ{، ولنبادر قبل أن تأتي الصاخة، }يَومَ يَفرّ المَرء من أَخيه وَأمّه وَأَبيه وَصَاحبَته وَبَنيه لكلّ امرئ منهم يَومَئذ شَأنٌ يغنيه{.
مستشار إعلامي