مقالات

الفساد فى زمن كورونا

عاصم عبدالخالق

المأساة الإنسانية التي صنعتها كورونا بحصد أرواح خمسة ملايين إنسان ليست إلا وجها واحدا للكارثة وإن كان الأشد هولا وبشاعة. للفاجعة وجوه أخرى احدها الفساد الذي وجد في أجوائها بيئة خصبة للنمو والتكاثر السرطاني. كورونا منذ بدايتها كانت ومازالت أزمة أخلاقية بقدر ما هي كارثة إنسانية وصحية واقتصادية. لذلك كان طبيعيا أن تفرض نفسها على مناقشات مؤتمر مكافحة الفساد الذي نظمته الأمم المتحدة في شرم الشيخ الأسبوع الماضي.

في زمن الأزمات الكبرى ينتعش الفساد. هذه حقيقة ثابتة يعرفها البشر منذ أن عاشوا في مجتمعات منظمة تحكمها قواعد وأعراف. وبتعبير كريس ستون أستاذ القانون بجامعة اوكسفورد والخبير في نظم الحكم والنزاهة فإن الفساد يحب الأزمات. وكلما كانت الأزمة أكبر كان حبه لها أشد وارتباطه بها أقوى. السبب، كما يقول في إحدى محاضراته المنشورة، أن الأزمات الكبرى تجبر الحكومات على تخصيص أموال أكثر لمواجهتها. وبسبب الضغوط والحاجة إلى التصرف السريع تتغاضى عن بعض قواعد المراقبة والتدقيق المحاسبي المطبقة في الظروف العادية، وهذا ما يحدث مع كورونا.

في المقابل يكون هناك عشرات المتربصين الذين يتحينون الفرصة للتربح. وهم كما يقول ستون لصوص في غاية الأناقة يتألفون من مزيج نخبوي من المسئولين الحكوميين والمقاولين الكبار وأصحاب الشركات، بجانب جيش من صغار اللصوص الهامشيين. وهؤلاء جميعا على استعداد لفعل أي شئ للحفاظ على نهر الأموال الذي يصب في جيوبهم خاصة أنهم يعرفون أنه سيجف مع انتهاء الأزمة.

يدلل ستون على صحة كلامه بقصة حزينة لسيدة من جنوب إفريقيا تدعي بابيتا ديوكاران وهي واحدة من ضحايا الفساد الذي ارتبط بتفشي الجائحة. بابيتا ليست ضمن الملايين الخمسة الذين قتلهم الوباء. وبقدر ما كانت قوية صحيا بما يكفي لمقاومة المرض، كانت قوية أخلاقيا أيضا للصمود أمام إغراءات الفساد. كمسئولة عن الشئون المالية في إدارة صحية بجوهانسبرج، توافر لدى بابيتا معلومات عن صفقات مشبوهة لشراء المستلزمات الطبية، لم تتردد في إبلاغ السلطات. لكن الرد جاء سريعا. بعد أيام قليله أطلق عليها مجهولون وابلا من النيران وهي تغادر سيارتها بعد أن أوصلت ابنتها للمدرسة. لقيت بابيتا حتفها على الفور، ووصلت الرسالة للجميع: من يجرؤ على الكلام سيلقى نفس المصير. مأساة المناضلة الإفريقية تكشف إلى أي حد يتوحش الفساد عندما تكون الغنائم بالملايين قياسا على الحجم الضخم للميزانيات المرصودة لمكافحة الوباء.

وخلال مؤتمر شرم الشيخ ذكر محمد دياني نائب رئيس البنك الدولي للنزاهة أن البنك خصص 157 مليار دولار على مدى عشرين شهرا كمساعدات لمواجهة الجائحة. في اليوم التالي لهذا التصريح أعلن البنك من واشنطن أن المؤسسة الدولية للتنمية، ذراعه المعنية بمساعدة الدول الأشد فقرا، حصلت على تمويل قياسي بقيمة 93 مليار دولار لنفس الغرض. ومن المؤكد أن هذه المبالغ الفلكية تسيل لعاب اللصوص في العالم.

الأرقام التي خصصت منذ بداية الأزمة بالغة الضخامة وتغري بالفعل على السرقة وتفسر لماذا يستقوى الفساد ويتوحش إلى هذا الحد. ويذكر تقرير لمركز «يو4 لمكافحة الفساد في النرويج» أنه منذ يناير 2020 وحتى يناير الماضي تم الإعلان عن تخصيص 20.7 تريليون دولار لمواجهة الوباء عالميا. يوضح نقلا عن منظمة الشفافية الدولية أن الفساد يشمل كل ما يتعلق بالجائحة ابتداء من التعاقدات لشراء المعدات والأجهزة والأدوية وتوزع اللقاحات وتكاليف الإجراءات الصحية والإدارية. وأنه يأخذ كل صور الجرائم المالية المعروفة من اختلاس وعمولات غير قانونية ورشاوى. وأن هذا الوباء الأخلاقي يتفشي في نحو 30 دولة معظمها من الدول النامية.

وحتى بدون جائحة بحجم وخطورة كورونا يستوطن الفساد في القطاع الصحي عالميا. ووفقا لما تقول منظمة الشفافية فإن تكلفته في هذا القطاع تقدر بنحو 500 مليار دولار سنويا. وتصنيع الأدوية واللقاحات المغشوشة هو الجزء الأشد خطرا وبشاعة في منظومة الفساد، وهي جريمة قتل بل إبادة جماعية مكتملة الأركان يروح ضحيتها الآلاف. ويكشف تقرير لمعهد كارنيجي الأمريكي عن أن أدوية الملاريا المغشوشة وحدها تتسبب في مقتل نحو 450 ألف إنسان سنويا في العالم. ومن المؤكد أن هذه الجريمة ترتكب الآن بغش لقاحات كورونا.

وكما توضح جودي فينور الباحثة في المركز فإن وباء الفساد ليس من الأمراض المتوطنة في البلدان النامية فقط بل ينتقل للدول المتقدمة أيضا. وعلى سبيل المثال فقد نشرت جريدة الاتحاد الطبي الأمريكي دراسة أوضحت أن 98 مليار دولار ضاعت هباء بسبب الاحتيال وسوء الإدارة في برنامجي ميد كير وميد يكيد للرعاية الصحية في أمريكا خلال 2011 وحده. أوروبا بدورها ليست محصنة، ويذكر تقرير لمفوضية الشئون المحلية أن خسائر الفساد في بلدان الاتحاد الأوروبي تبلغ 132 مليار دولار سنويا.

ربما تبدو أرقام الفساد في القطاع الطبي ضخمة وهي كذلك بالفعل إلا أنها تتضاءل عند مقارنتها بحجم الفساد المالي في العالم والذي يقدره البنك الدولي بنحو 2٫6 تريليون دولار كل عام بما يوازي 5% من الناتج المحلي العالمي. يوضح البنك أيضا أن إجمالي ما يدفع من أموال كرشاوى في العالم يتجاوز تريليون دولار سنويا.

الأرقام كثيرة ومفزعة ولا سبيل لحصرها هنا. قصة الفساد هي قصة الإنسان في صراعه الأبدي بين الخير والشر. لن يخلو العالم من الأشرار لكنه يمتلئ أيضا بأصحاب الضمائر اليقظة والأخلاق السامية الذين يتصدون لهم. بابيتا ليست وحدها، كثيرون غيرها لديهم نفس جسارتها ونبل أخلاقها. نعم خسرت معركتها مبكرا ولن تكون الضحية الوحيدة، لكن الحرب مستمرة. الرصاص لا يقتل الأمل. إيليا أبو ماضي كان على حق « قل لمن يبصر الضباب كثيفا.. إن تحت الضباب فجرا نقيا».

صحيفة الاهرام

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى