جامع القيروان.. اروع ما جادت به العبقرية الاسلامية
يعد جامع عقبة بن نافع او جامع القيروان الكبير أو مسجد الأغالبة في تونس من أبرز ما جادت به العبقرية الاسلاميةعلى مر العصور ومن أجمل وأروع مآثر الحضارة الإسلامية عبر التاريخ.
وما زال هذا المسجد الذي أسس عام 50 للهجرة في محافظة القيروان التونسية على بعد 156 كيلو مترا من العاصمة حاضرا كشاهدٍ على حقبات تاريخية فارقة ومهمة في تاريخ عدة دول عربية وإسلامية.
وكالة الأنباء الأردنية (بترا) جالت في هذا الجامع الذي يعد إرثاً حضارياً عريقاً لحقبة مفصلية في تاريخ تونس وشمال إفريقيا لتسجل ان هذا المسجد يروي المرور الإسلامي الأول في هذه المنطقة من العالم؛ سيما وأنه الجامع الأول الذي بناه المسلمون في شمال إفريقيا، ولهذا يسميه بعض المؤرخين “أبو الجوامع”.
ويجمع المؤرخون على أن إنشاء القائد العربي عقبة بن نافع، مدينة القيروان، كان في الحقيقة تأسيساً لمرحلة تاريخية جديدة في منطقة الحوض الغربي من البحر الأبيض المتوسط؛ فقد قام عبر هذه الخطوة بتحويل إفريقية (الاسم السابق لتونس)، ومعها الجزائر والمغرب، إلى أراضٍ لغتها عربية ودينها الإسلام. ولهذا يعتبر جامع عقبة بن نافع أو جامع القيروان أقدم مساجد المغرب الإسلامي، والمصدر الأول الذي اقتبست منه العمارة المغربية والأندلسية عناصرها الزخرفية والمعمارية.
وتأسس هذا المسجد العريق على يد القائد عقبة بن نافع في أواخر القرن الثامن الميلادي، (50 للهجرة)، وأحيطت مسألة بناء محراب القيروان بأسطورة مفادها أن مكان بناء الجامع تم بوحي إلهي نزل بشكل رؤيا على عقبة بن نافع.
ولم يكن حينها المسجد بهذه السعة التي هو عليها الآن؛ إذ خضع للعديد من حملات التهيئة والتجديد والتوسعة على مر التاريخ، كان أبرزها في عهد دولة الأغالبة؛ ولعل هذا يبرر تسميته من بعض المؤرخين بمسجد الأغالبة.
و في عام 248 هجرية قام أحمد بن محمد الأغلبي، بتزيين المنبر وجدار المحراب بلوحات رخامية وقرميد خزفي، وفي عام 261 هجرياً قام بتوسعة الجامع وشيد قبة باب البهو، وأقام مجنبات تدور حول الصحن؛ ليكون الجامع بذلك قد بلغ جمالية عالية في تلك الفترة.
ويعتبر جامع عقبة بن نافع من أضخم المساجد في الغرب الإسلامي وتبلغ مساحته الإجمالية ما يناهر 9700 متر مربع، وكان بيت الصلاة هو أول ما بُني في الجامع، وألحق في ما بعد الصحن وخزانات المياه، ويتميز بيت الصلاة بشكل مستطيل منحرف يصل عرضه إلى 70 متراً، بينما يتجاوز عمقه 30 متراً؛ وهو أكبر بيوت الصلاة في إفريقيا في العصر الإسلامي المبكر.
ويذهب المؤرخون للقول إن مئذنة جامع عقبة بن نافع من أجمل المآذن التي بناها المسلمون في إفريقيا؛ إذ تتكون من ثلاث طبقات مربعة الشكل، وفوقها قبة محززة ، ويصل ارتفاع المئذنة إلى 31.5 متر، وتقع في الحائط المواجه لجدار القبلة في أقصى الصحن المكشوف، ويدور بداخلها درج ضيق يرتفع كلما ارتفع المبنى متناسباً مع حجمه، ويضيق كلما ارتفعنا إلى أعلى.
وتوجد في المسجد ست قباب؛ هي: قبة المحراب، وباب البهو، وقبتان تعلوان مدخل بيت الصلاة، وواحدة تعلو المجنبة الغربية للمسجد، ثم أعلى المئذنة. وبنيت أغلب المآذن في المغرب العربي بعد ذلك على شاكلتها على غرار مئذنة جامع صفاقس (الجنوب التونسي) ومآذن مساجد كل من تلمسان (الجزائر) والرباط وأغادير (المغرب).
أما المنبر فيعتبر تحفة فنية رائعة؛ فهو مصنوع من خشب الساج المنقوش، وهو أقدم منبر في العالم الإسلامي وما زال في مكانه الأصلي منذ القرن الثالث للهجرة؛ ويتكون من 360 لوحة مختلفة النقش، ويعد أقدم منبر في العالم الإسلامي بعد إحراق منبر المسجد الأقصى أواخر التسعينيات. بينما يوحي الشكل الخارجي للجامع أنه حصن ضخم أو قلعة عسكرية محصنة تكتنفها الجدران السميكة والمرتفعة والأبراج والعضائد.
وكان للجامع دور كبير في نشر الدين وتعاليمه؛ حيث كان يطلق عليه اسم “بيت الحكمة”، وفيه كانت تُعقد مجالس العلم التي تستقطب العلماء البارزين من فقهاء المالكية والحنفية وغيرهم.
ويقبل التونسيون على زيارته في المناسبات الدينية؛ خصوصاً ليلة 27 رمضان، لحضور ختم القرآن، وخلال المولد النبوي الشريف؛ حيث يصبح قبلة الجميع.
وأثر جامع عقبة بن نافع والقيروان عموماً في العديد من المستشرقين والمبدعين في العالم؛ حتى أنه مثَّل نقلة فارقة لبعضهم، سيما الفنان التشكيلي السويسري بول كلي، وصديقيه أوغست ماكي ولويس مواييه، الذين غيرت زيارتهم الخاطفة، التي لم تتجاوز بضعة أيام قليلة للمدينة والمسجد، مسار حياتهم التشكيلية.
كتب كلي في مذكراته “أَسَرَني اللون، لا أحتاج إلى البحث عنه؛ لقد تملكني إلى الأبد، أعرف ذلك المعنى السعيد لهذه اللحظة، أنا واللون بتنا شيئاً واحداً، أنا رسام”.
وأضاف: “في القيروان أكتشف الشمس العربية التي تتغلغل في جسد الإنسان وروحه؛ بحيث لا يمكن تفاديها، فهي بريق ساطع ووهج مشع”.
المصدر : (بترا)