مقالات

المتعهد الأجنبى لخدمات الحروب والمصالحات في بلاد العرب

د. سليمان عبد المنعم

لا أعتقد بمنظور فكري أن أحداً ينكر أهمية التواصل والتعاون الدوليين وضرورة الانفتاح على العالم. ولا أحد يجهل بمنظور واقعى حقيقة أن العالم أصبح قرية واحدة كبيرة تتداخل فيها المصالح وتؤثر عليها موازين القوى. ندرك هذا ونفهمه تماماً. لكن ما يظل عصيّاً على المنطق هو ظاهرة استدعاء الأجنبى فى بلاد العرب كظاهرة قديمة تاريخياً لا تكف اليوم عن إعادة إنتاج نفسها.

والمفارقة أن سلوك استدعاء المتعهد الأجنبى فى بلاد العرب لا يقتصر على الخدمات الأمنية والعسكرية فى استقواء دولة على أخرى، أو فريق على آخر داخل الدولة الواحدة، بل أصبح يشمل أيضاً خدمات تسوية النزاعات وإدارة المصالحات. تاريخنا القديم والحديث حافلٌ باستدعاء الأجنبى منذ استقواء أمراء الطوائف فى الأندلس بالأجنبى ضد بعضهم البعض حتى سقطت الأندلس وأصبحت أثراً بعد عين. ولعلّ من يقرأ كتاب الدكتور حسين مؤنس عن المغرب والأندلس يكتشف الجذور القديمة لعقلية استقواء العربى بالأجنبى حتى لو كانت النتيجة هى سقوط المعبد على رؤوس الجميع.

المتعهد الأجنبى لخدمات الحروب والمصالحات فى المنطقة العربية أصبح يشمل البعيد والقريب. البعيد يضم أقصى الشرق والغرب معاً من روسيا حتى أمريكا وبينهما القوى الكبرى فى أوروبا الغربية. أما القريب فيضم الأجنبى الذى تمدد فى الفضاء العربى الفارغ من أى مشروع عربي. أصبح الإسرائيلى والتركى والإيرانى أصحاب طموحات وأجندات فى عالم عربى استباح نفسه يوم أباح للأجنبى أن يكون صاحب دار. فالتركى أيقظ حلمه العثمانى, والإسرائيلى لم يكفه القيام بأكبر عملية سطو تاريخى على أرض الغير ليقيم نظاما عنصريا بل أصبح يتباهى بأنه القوة التى ستقود الإقليم العربى، وأخطر ما فى الأمر أنه يقدم نفسه متعهداً لخدمات رفع العقوبات الدولية أو تقديم بعض الوساطات لصالح هذا الطرف أو ذاك لدى الولايات المتحدة بوجه خاص. أما الإيرانى فإن مشروعه الطائفى خارج حدوده يزيد من تعقيد الأمور فى دول عربية ليست بحاجة أصلاً إلى تعقيدات.

السؤال هو ما الذى أوصل العرب إلى هذا الحد حتى أصبح استدعاؤهم للأجنبى حلاً لإدارة صراعاتهم وإجراء مصالحاتهم؟ ربما يقدم البعض أسباباً سياسية وأمنية لتبرير استدعاء الأجنبى بقوته العسكرية مثل حالة الغزو العراقى للكويت عام 1990. بدا للبعض أن الانقسام العربى آنذاك كان مبرراَ إضافياً لاستدعاء القوة العسكرية الأجنبية. لكن هل كان تدخل الرئيس الفرنسى هو الوسيلة الوحيدة لإصلاح ذات البين فى الأزمة الدبلوماسية بين لبنان وبعض دول الخليج؟ ألم تكن جامعة الدول العربية قادرة على فعل ما فعله الفرنسي؟

فليكن للاعتبارات والمبررات السياسية والأمنية ما لها من تقدير لدى أصحابها، لكن يبدو أن لظاهرة استدعاء الأجنبى لتقديم خدمات الحروب والمصالحات تشخيصاً ثقافياً هو الذى أنتج العقلية العربية التى تستريح وتثق فى الأجنبى بأكثر من الشقيق العربي. فوراء كل ظاهرة ثمة عقلية وطريقة تفكير تصنع الواقع وتنتج الظاهرة. قد يبدو للبعض أن مثل هذا الكلام يمثل ضرباً من الأفلاطونية السياسية بالتجاهل لتعقيد الواقع السياسى فى بلاد العرب. لكن حتى مع التسليم بتعقد الواقع السياسى العربى فإن التشخيص الثقافى والذهنى لهذا الواقع يُسهم فى تفسير بعض جوانبه والتباساته.

أبرز تجليات التشخيص الثقافى والذهنى للسلوك العربى هو ما ينضح به هذا السلوك من حالة تشرذم يحار أى عقل فى فهمها. تشرذمٌ طالما تغذى فى الماضى والحاضر على الشك والتوجس وافتقاد الثقة. يفتقد العربى الثقة فى ذاته وفى بنى جلدته أيضاً لكنه يستعذب الثقة فى الأجنبى فيما يُشبه حالة الماوزشية السياسية فى مواجهة طرف سادى مقابل. ومع كل ما فعله الأجنبى بالعربى تاريخياً فإن علاقة المازوشية العربية فى مواجهة السادية الأجنبية تعيد إنتاج نفسها وتأخذ فى كل حقبة أشكالاً جديدة، وهى علاقة قد لا تتجسد بالضرورة فى ممارسة العنف الصريح لكنها أصبحت تتم بوسائل وأدوات أخرى. ولعلّ التصريحات غير اللبقة التى كان يتفوه بها علناً الرئيس الأمريكى السابق ترامب عن عقود مئات المليارات التى قال إنه حصل عليها من صفقات للسلاح فى المنطقة العربية كانت تعبيراً عن حالة غرام العربى بالأجنبى الذى لا يكف عن إحراج وابتزاز المغرمين به.

ولم يفطن العربى إلى مغزى وجدوى بعض لحظات التضامن الاستثنائى التى مر بها مثل ما حدث فى حرب أكتوبر 1973 حين استخدم سلاح النفط كأحد الأدوات التى يستخدمها الأجنبى فى إدارة صراعاته والدفاع عن مصالحه. نجح الأجنبى والغربى خصوصاً فى الإبقاء على حالة التشرذم العربي. ومن يقرأ كتب مذكرات الزعماء والساسة الغربيين مثل مذكرات وزير الخارجية الأمريكى السابق هنرى كيسنجر يجد من العبارات الصريحة ما يؤكد أن إثارة حفيظة القادة العرب والوقيعة الذكية فيما بينهم وتغذية مشاعر تنافسهم الشخصى كانت أحد الأدوات التقليدية للمتعهد الأجنبى لخدمات الحروب والمصالحات فى المنطقة. المفارقة المحزنة والمقلقة هى أن التدهور العربى ما زال ينتقل من حقبة إلى حقبة تالية أكثر تدهوراً، وما كنا غير راضين عنه بالأمس يبدو أقل سوءاً مما نعيشه اليوم. ولعلّ المنطقة العربية هى المنطقة الوحيدة على وجه الأرض التى تسوء فيها الأوضاع بهذه الوتيرة المتصاعدة. يكفى إلقاء نظرة على ما تشهده سوريا وليبيا واليمن فى السنوات العشر الأخيرة، وما يجرى فى تونس والسودان من مخاض سياسى واجتماعى وأمني. أما فى الجرح العربى النازف فى فلسطين فيكفى مقارنة أعداد المستوطنات الإسرائيلية التى أُقيمت بالمخالفة لأحكام القانون الدولى وقرارات الأمم المتحدة فى أعوام 1980، و2000، ثم اليوم لنكتشف أنه منذ عام 2009 زادت أعداد المستوطنين فى الضفة الغربية والقدس بنسبة 55% بحسب الإحصاءات الإسرائيلية نفسها.

وفى لبنان هذا المجتمع المبدع الذى سُمى يوماً بسويسرا العالم العربى وبلد الحريات والتنوع فإن الدولة تكاد تصل إلى حد الإفلاس وعادت أجواء 1975 الكئيبة لتطل من جديد. وأصبح الطلب على المتعهد الأجنبى قوياً، وتعدد المتعهدون الأجانب بنفس درجة تعدد فرقاء الوطن الواحد واختلاف أجنداتهم. كان استدعاء المتعهد الأجنبى أقوى من رابطة الانتماء إلى الوطن. ما سبق يعنى أن ما يقرب من نصف عدد الدول العربية يعانى صراعات وانقسامات فى هيكلية الدولة وفى صفوف المجتمع أيضاً. ربما ليس مناسباً ولا مجدياً فى اللحظة الراهنة أن نتساءل عن أيهما كان سبب تدهور الأحوال العربية على هذا النحو، هل هى الطبقة السياسية أم المجتمع نفسه ومن منهما أسقط الآخر على مدى هذه السنين؟ ما نعرفه أن الدول التى صمدت فى البقاء دون التماس قوة أو حماية المتعهد الأجنبى هى الدول التى اعتصمت باستقلال قرارها الوطنى ووفرت لها مؤسساتها الوطنية أدوات هذا الاستقلال فلم تطلب الحماية من أحد.

السؤال الأكثر جدوى هو كيف السبيل لإيقاف عجلة تدهور الدولة العربية والحد من عملية استدعاء الأجنبى لخدمات الحروب والمصالحات فى ديارنا؟ فالأجنبى لا يبحث عن قيم ومبادئ بقدر ما تهمه المصالح والأسواق. سيتوقف التدهور يوم نكتشف أن ما يجمع بيننا أكبر بكثير جداً مما يفرّق بيننا. سيتوقف التدهور يوم ندرك أنه ما من ضرورة قصوى لاستدعاء الأجنبى لتقديم خدمات الحروب والمصالحات ليس فقط لأن تكلفته عالية وفواتيره باهظة على المدى القريب والبعيد ولكن أيضاً لأن بيدنا أن نستعيد الثقة فى أنفسنا وفيما بيننا.

سيتوقف تدهور الأحوال فى بلاد العرب يوم نتذكر أن هناك مؤسسة قائمة تحمل اسم جامعة الدول العربية، وأن هناك معاهدة للدفاع العربى المشترك أُبرمت عام 1950، وأن هناك مشروعاً مصرياً منذ سنوات قليلة لإنشاء قوة تدخل عربى لكنه أُجهض قبل أن يبدأ، وأن هناك مشروعاً لإنشاء محكمة عدل عربية لنظر النزاعات والخلافات العربية. عندما يحدث ذلك، وعندما تتغير العقلية والثقافة وتتبدّد الشكوك وينتهى التشرذم ونطوى صفحة أى ذكريات تاريخية سيئة.. عندما يحدث ذلك سيتوقف الطلب على المتعهد الأجنبى.

الاهرام

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى